أجرى الحوارعبده حقي
تقديم : المسرح المغربي في حاجة اليوم أكثرمن أي وقت مضى إلى حوارالمكاشفة وشفافية الحقيقة من أجل تعرية مكامن الألغام المزروعة من تحت ركح أبي الفنون .. ولكي نشفي غليل أسئلتنا كان علينا أن نطرق باب أحد أقطاب النقد والتأليف المسرحي بالمغرب الدكتورعبدالكريم برشيد لما عرفنا عنه من صراحة جريئة ونادرة وثقافة أكاديمية مسرحية وتراثية مغربية وعربية واسعة وأيضا مما خاضه على الخصوص من معارك مع أبي الفنون منذ أن صدع ببيانه الأول قبل أربعة عقود حول “المسرح الإحتفالي” إلى آخربيان ناري أطلقه يوم 8 يونيه الجاري بعنوان “نداء إلى المسرحيين المنبوذين” والبقية من البيانات آتية من دون شك .
ولمعرفة المزيد عن خبايا غابة برشيد المسرحية وعن أسباب محطات التمرد وعلامات التفرد في سيرته المسرحية وبعض مظاهرعلل المسرح المغربي الراهن وأخيرا عن إخفاقات السياسة الثقافية بالمغرب أجرينا معه هذا الحوار.
س : بداية شكرا لكم على قبول دعوتنا لإجراء هذا الحوار وكما يقول المثل العربي “الأمور بخواتمها” قمتم يوم الجمعة 27 يونيه بتوقيع إصداركم الأخير الموسوم ب”الصدمة المزدوجة ⁄المسرح والحداثة” نود منكم لو تفضلتم باختصار بسط أهم محاورهذا المنجز النقدي المسرحي الجديد؟
ج : يأتي هذا الكتاب الجديد في إطار مشروع نقدي كبير، ولقد كان من المفروض أن يصدر قبل كتاب (التأسيس والتحديث في تيارات المسرح العربي الحديث) ولكنه جاء بعده بشهر، والكتابان معا يحيلان على الكتب التي سوف تأتي مستقبلا، والتي هي كتاب ( التيار التجريبي في المسرح العربي) و(التيار التأصيلي في المسرح العربي) و(التيار التأسيسي الاحتفالي في المسرح) وسيكون هناك كتاب سادس للخلاصات والاستنتاجات العامة.
ويتألف كتاب الصدمة المزدوجة من فاتحة وخاتمة بالإضافة إلى الفصول التالية: فصل: من التمثيل إلى المسرح، وفصل التمثيل الاجتماعي والتمثيل المسرحي، وفصل التمثيل المختلف في الثقافات المختلفة، وفصل المسرح في درجة الحداثة، وفصل تجارب وأسماء ومشاريع، وفيه أتحدث عن تجربة المسرحي القطري حمد الرميحي وعن تجربة المسرحي المغربي محمد تيمد وعن تجربة المسرحي العراقي جواد الأسدي وعن تجربة المسرحي الفلسطيني راضي شحادة وعن تجربة المسرحي العراقي صلاح القصب وعن تجربة المسرحي المغربي الكبير أحمد الطيب العلج.
ولقد كان المثقفون في مدينة الدار البيضاء على موعد مع حفل تقديم هذا الكتاب والذي شارك في قراءته ومناقشته الأساتذة كمال فهمي وعبد السلام لحيابي ود. المختار العبدلاوي ود.عبدالرزاق بلال ود. ندير عبد اللطيف وأحمد جليد وإبراهيم وردة وبوشعيب الطالعي وجناح التامي، وقد تم اللقاء في مركز ( مدى) بمدينة الدار البيضاء وبتنظيم من الصالون الأدبي فيل وآرت ومركز مدى.
س : أيضا دكتورعبد الكريم برشيد تضمن أحد أعداد مجلة “دبي الثقافية” لهذه السنة كتابا مرفقا لكم بعنوان “التأسيس والتحديث في تيارات المسرح الحديث ” في 270 صفحة ومن خلال العنوان يبد وأن هذا الكتاب ينفتح في مقاربته النقدية على المسرح العالمي في كونيته وأنطولوجيته كيف كانت أصداء هذا الكتاب على المستوى العربي؟
ج : لعل أجمل ما في كتاب ( دبي الأدبية) هو أنه يوزع على نطاق عربي واسع، ولقد كان كتاب ( التأسيس والتحديث في تيارات المسرح العربي الحديث) محظوظا بلا شك، لأنه وصل إلى كل من يهمه الأمر، ولقد وصلتني من كل العالم العربي استفسارات وتساؤلات عن الكتاب، وعن معنى التيارات، وعن مناهجها وفلسفاتها وعن سياقاتها التاريخية ومرجعياتها الفكرية والجمالية.
س : بعلاقة المسرح مع الحلقة ـ سيدي الكتفي ـ سلطان الطلبة والمسرح العمالي وأيضا بساحات الهديم وبوجلود وجامع لفنا هل مازال العرض المسرحي اليوم في زمن الوسائطية الرقمية، قادرا على الحفاظ على بعض حميمية هذا المشترك في علاقته المباشرة بالمتلقي على الركح؟
ج : الأساس في المسرح أنه حاجة من حاجات الإنسانية النفسية والروحية والاجتماعية، وأعتقد أن هذه الحاجة مازالت موجودة إلى حدود هذا اليوم، ومن المؤكد أنها ستظل قائمة وموجودة، مادام هذا الإنسان موجودا، ومادام محافظا على إنسانيته وحيويته ومدنيه وروحه الاحتفالية والتعييرية، وفي المسرح نحيا حياتنا، ونعبر عن هذه الحياة بعفوية وتلقائية، وفي هذا المسرح نضحك أحيانا، ونعير عن هذا الضحك الساخر بالكوميديا، وفي هذا المسرح نحزن أيضا، ونعبر عن هذا الحزن بالتراجيدا، وهذا ما يعطي المسرح حقيقته، ويجعله فنا خالدا ومتجددا.
ويخطئ من يقارن بين المسرح والوسائط الرقمية، لأن المسرح ليس صورة تنقل، وليس معلومة ترحل، وليس فرجة نتفرج عليها، لأنه لا أحد موجود في هذا المسرح إلا نحن وحياتنا، ومتى كان الإنسان يتفرج على حياته؟
في المسرح نحضر، ونؤكد على هذا الحضور، وفي المسرح نلتقي لأنه لا يمكن أن نغلق علينا الأبواب، وأن نعوض حضور الناس بالتفرج على صورهم عن بعد، وفي المسرح نعيش الحالات والقضايا الساخنة والحارة، وفيه نكون فاعلين ومتفاعلين، بدل أن نكون سلبيين ومنفعلين ومستهلكين، وبهذا يكون المسرح هو الحقيقة، وتكون كل الوسائط الرقمية مجرد صور متحركة، وكما يقول أحمد الطيب العلج في إحدى أغنيه ( الصوره خيالووخيالو ماشي بحالو(
المسرح إذن، هو التلاقي الإنساني، وهو تظاهرة اجتماعية لها علاقة عضوية بفضاء المدينة وبمناخها وبطقسها، وهذا ما يجعله فنا لكل العصور ولكل المراحل التاريخية، ويجعله قابلا لأن يتعايش مع كل الثقافات ومع كل اللغات.
وينبغي ألا ننسى أن هذا المسرح هو أدب أولا، وأنه بهذا كلمة مكتوبة ومقروءة، وأنه نص عابر للقارات وعابر للعصور والدهور، وأنه من الممكن أن نستمتع بالمعاني وبالصور وبالموسيقى وبالحالات وبالمقامات وبالحوارات التي في هذا النص.
والمسرح فن ثانيا، والصحيح أن نقول هو مجموعة فنون متضامنة ومتحدة، وفيه تحضر الكلمة والحركة، ويحضر الصوت والصمت، ويحضر الفراغ والامتلاء، ويحضر الناس والأشياء، وتحضر الأزياء والأقنعة، ويحضر الرقص والغناء، ويحضر الإلقاء والإنشاد.
والمسرح ثالثا، مكان في المدينة له هندسة معمارية خاصة، وهي الهندسة التي استعارتها دور السينما، وحافظت عليها ولم تضف إليها شيئا مهما، ولهذا المكان ـ البناية دوراجتماعي شبيه بما تقوم به الساحة في المدينة، وبما تقوم به الحديقة العمومية، وبما تقوم به المدرسة والجامعة، وبما يقوم به المسجد والمعبد، وبما تقوم به المصحة النفسية أيضا.
وهذا المسرح، رابعا، هو بالتأكيد فضاء عام، أو هو بيت جماعي، وبيت من لا بيت له، وفيه يمارس المواطن الشعبي مواطنته، وهو بهذا برلمانه الذي يطرح فيه قضاياه الحقيقية، ولعل هذا هو ما يفسر أن يرتبط مولد المسرح في اليونان بمولد الديمقراطية، وأن يكون هذا الفن ـ العلم مدرسة لتعلم أصول المواطنة الحقة.
س : من دون شك أن النقاد والباحثين المغاربة في المجال المسرحي أكثرإنشغالا واشتغالا وأوفرعطاءا مقارنة مع باقي النقاد في الدول العربية الأخرى إلى ما تعزى هذه الدينامية ثم أليست أزمة المسرح إحدى محركاتها الرئيسية؟
ج : حقا، المغاربة أكثر عطاء وأكثر واقعية وأكثر موضوعية وجدية في مجال النقد المسرحي، لأنهم ينطلقون أساسا من الحس النقدي السليم، ومن الوعي النقدي الشامل، ومن السؤال النقدي الدقيق، ويعتمدون على العقل إلى جانب اعتمادهم على النقل، والشك في قراءتهم النقدية شيء أساسي، وهم اليوم يقفزون على القراءات الوصفية وعلى القراءات الأخلاقية وعلى القراءات الإيديولوجية، وينبغي أن لا ننسى أن المناخ العام الذي ينكتب فيه المسرح المغربي، إبداعا ونقدا وتنظيرا وتأريخا، هو مناخ فكري ساهم في إيجاده مجموعة من المفكرين المغاربة نجد على رأسهم عابد الجابري وطه عبد الرحمن وعبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي ومحمد سبيلا و وغيرهم كثير.
س : لنعد شيئا ما إلى عقود حيث لا يمكن لأي صحفي أو باحث أن يلج غابة عبد الكريم برشيد الفيحاء من دون أن يتحدث عن “دوحة الاحتفالية” التي تخفي الغابة، كيف تنظرون اليوم على بعد أربعة عقود من إطلاق بيان “المسرح الاحتفالي” وما هي حصيلة أم المعارك هاته في تاريخك المسرحي؟
ج : هذه الاحتفالية لم تظهر من فراغ، وهي أساسا رؤية ورؤيا، وهي تفكيروتصور، وهي فعل وانفعال وتفاعل، وهي جزء ساسي وحيوي من تاريخ المغرب الحديث، ولا يعقل أن نتحدث عن المسرح العربي من غير أن نتوقف طويلا عند أفكارها واقتراحاتها وإبداعاتها وبياناتها ومواقفها ومعاركها التي دامت أربعين سنة.
وهذه الاحتفالية، تعيش اليوم عمرا جديدا من أعمارها المتعددة والمتلاحقة، فبعد العمر التأسيسي الذي عاشته في السبعينات، نجدها الآن تعيش عمر التمدد والتعدد، وتحيا زمن التجديد والارتقاء، وإذا كان فعل التأسيس واضحا وظاهرا للعيان، فإن فعل التجديد يتم داخليا في الخفاء، ولهذا فإن كثيرا من العيون لا تراه، فالفلسفة الاحتفالية تزداد مع الأيام اتساعا، ولقد عبرت عن هذا من خلال كتاب ( فلسفة التعييد الاحتفالي) والذي صدر عن منشورات توبقال، كما عبرت عن فلسفتها الأخلاقية في ( بيان ما معنى أن تكون احتفاليا) والذي صدر ضمن ( بيانات عمان للاحتفالية المتجددة) كما عبرت عن رؤيتها للأغنية الاحتفالية، التي أسسها الشاعر والزجال والمسرحي الاحتفالي محمد الباتولي، وقد جاء هذا في بيان مسرحي جديد لم ينشر بعد، وهو يحمل عنوان ( بيان الأغنية الاحتفالية)
وفي مجال الإبداع فإن هذه الاحتفالية لا تتوقف عن الإدهاش والاندهاش، ومسرحياتها حاضرة في كل العالم العربي، ويخطئ من يجسدن هذه الاحتفالية في أجساد أشخاص، لأن كل الأجساد مطلوبة للرحيل، ولكن الأفكار باقية، ومن حق أي مسرحي أن يختلف مع هذه الأفكار، وأن يقترح غيرها، ولكنه ليس من حق أية جهة أن تصادر هذا الإرث الإنساني العام، والذي هو ملك لكل الإنسانية في كل زمان ومكان.
س : الاحتفالية هي في العمق احتفاء بالموروث وبالمشترك وكل التجليات الأنتربولوجية في المجتمع وهي بالتالي الأقرب إلى الذاكرة الجمعية من أي تيار آخر، أين إذن تكمن جيوب مقاومتها إذا كانت تجعل من المحلية هدفها الأسمى قبل العالمية ؟