محمد بنعزيز
في اللوحة الأولى بقايا حريق، نفط وزفت وقطران… أثر أشبه ببصمة شفتين على اللوحة. يهيمن الأسود والرمادي. يبدو أن الرسامة قد استخدمت النار لتشكيل الزفت وتوليد لمسة أسلوبية جديدة. تشتغل الرسامة على مواد طبيعية، بقايا الأرض.
استعرض لوحات المهندسة فاطمة الزهراء مرجاني على إيقاع موسيقى ساكسوفون مؤثر… في الكثير من اللوحات خط أفقي. لا يشبه ما تحته ما فوقه. توجد فوارق… أكاد أشم رائحا التراب في اللوحات. يصعب فصل الشكل ووجهة النظر ومادة للاشتغال. في وسط المعرض نصب على توربين محرك لاستخراج الماء من البئر. رمز التبذير في الاستهلاك. هذه مشكلة من؟
ترسم مرجاني دون نزعة مدرسية، لكن الأشكال مصقولة. والصقل دليل على طول التفكير في الموضوع والأسلوب. ليس في اللوحة كتلة لونية ضخمة. تقتصد الرسامة، لم تقذف جمهورها بسطل من الألوان. تدير الفراغ بمهارة. تجعله معبرا عن أفق عاصف وحس سوداوي. تستخدم ألوانا محايدة والحياد ضعف في الفن. تدافع عن نفسها قائلة “أفضل الألوان المحايدة لأنها تعبير عن اللاوعي أو الضيق”
من النظرة الأولى لا تقول اللوحات شيئا. لوحات لم يتعود عليها المشهد الفني. يخلق الخروج عن التقاليد عوائق في التلقي. لكن المشاهد لا يستطيع المرور بسهولة. هناك شيء ما يشده في ذلك الغموض واللامعنى.
ما الأشكال في اللوحة؟
ليس كمثلها شيء. هناك تجريد يتجنب محاكاة مظاهر الطبيعة الملموسة. كانت الصور في الشعر العربي القديم ملموسة مستقاة من بيئة الشاعر. لذلك شبه الشاعر نفسه بالذئب المنبوذ وشبه الممدوح بالغيث وشبه عيون النساء بالمها وقدودهن بالغزلان… التشبيه يسهل الفهم والتجريد يعقده.
حين تغيب المحاكاة، حين يغيب وجه الشبه يشعر المشاهد الشعبي بالملل لأن المعنى يتأخر في الوصول إليه. طبعا الغموض مزعج. وهنا أكشفت مشكلة شخصية في التلقي. لقد بدأ اهتمامي بالرسم من باب السينما. وزيارة معارض التشكيل تدريب متأخر للعين بالنسبة لي، خاصة في مثل القاعة الفاخرة الملحقة بفندق فخم. المكان يلهم الأسئلة: كيف يكون مخرجا يؤطر اللقطات من يجهل تاريخ الفن التشكيلي؟ كيف يرسم ويحكي بالضوء من يجهل تراكمات الرسم بالحبر؟
يملك المخرجون الغربيون سبقا كبير في المجال. لذا اكتسبوا تراثا بصريا يفتقده غيرهم. فقد ولدوا في مدن متاحف وصلوا في كنائس على سقوفها لوحات عظيمة. لقد كان الخيال الديني المسيحي مرئيا ومصورا. ولهذا أثر مذهل، فعندما كتب ستوندال روايته كان يميز بين دلالة “الأحمر والأسود”. وكان الشاعر غوته منظرا للون والضوء ضدا على إسحاق نيوتن الذي يجهل جمال قوس قزح. وقد رسم يوجين دولاكروا الشاعر دانتي في الجحيم، بينما ساهم سالفادور دالي ذو العين الغريبة في كتابة سيناريو الفيلم الشهير “الكلب الأندلسي”…
في العالم الذي عشت فيه التصوير حرام. التماثيل لا مكان لها وحين تكون في مكان ما تنسف كما حصل لتمثالي أبي تمام والموصلي…. وللمقارنة فأول متحف مغربي فتح في الرباط كان في 2014.
مع كل هذا الفارق الزمني بين باريس والرباط فإن الغموض يعرقل مسالك الفهم. الحل؟ التأويل والتفسير، توجهت للرسامة: تشتكين من التزايد الفادح للاستهلاك. هذه مشكلة من؟
أجابت: مشكل كل الناس.
الغريب أن الذين يستهلكون أكثر هم من يشتكون. يعيشون في الرخاء يضرون بالبيئة. والمعرض موجه لهم، لذا نظم في بهو فندق فخم تقدسه نخبة الرباط ذات الذوق البرجوازي. كيف ترى تشكيلية برجوازية العالم؟
أجابت الرسامة “هذا ليس فنا موجها للبرجوازية. وأنا لست برجوازية أنا أحلب البقرة”. من خلال حماسها للدفاع عن نفسها يظهر كم صارت صفة “برجوازي” تهمة.
قلت “هذا فضاء مغلق راقي لا يصله الشعب”. أجابت: صحيح لقد نظمت معرضي في مكان راقي، لكن لو كنت نظمته في مكان بسيط هل كنت ستأتي؟
لم أجب لكن من نظراتي فهمت أنه لا. يبدو أن النخبة تفضل مكانا لا ترى فيه الشعب.