عبد الرزاق القاروني*
خلال أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، زار الفنان الإستوني إدوارد فيرالت مدينة مراكش، فأعجبته، وقرر الاستقرار بها لما يناهز السنة بأحد أحيائها العريقة بالمدينة العتيقة. وعن هذا العبور الخاطف والمتميز بالمدينة الحمراء، خلف لنا هذا الفنان باقة من اللوحات والنقوش الفنية الجميلة، والمفعمة بالدفء والحيوية، التي تخلد مشاهد من الحياة اليومية المغربية.
حياة منذورة للفن
ولد الرسام والنحات فيرالت، والذي ينطق اسمه آخرون ويرالت، يوم 20 مارس 1998 بمدينة تسار سكوي سيلو، التي تعني قرية القيصر، والتي تسمى، حاليا، مدينة بوشكين، القريبة من مدينة سان بطرسبورغ بروسيا. وكان أبواه أنطون وصوفي- إليزابيث يشتغلان خادمين في ضيعة إقطاعية، لكن ما لبثا أن رحلا، رفقة أبنائهما الثلاثة للاستقرار بمقاطعة جارفاما بوسط إستونيا، وكان الأبوان يطمحان لأن يصبح ابنهما إدوارد رساما. لذلك، أرسلاه، سنة 1915، للدراسة بمدرسة الفنون والمهن بمدينة تالين. ونظرا لظروف الاحتلال الألماني الغاشم، لم يتمكن فيرالت من إتمام دراسته بهذه المدينة، ولكونه فنانا ملتزما بقضايا وطنه العادلة، فقد انخرط في صفوف المقاومة الإستونية لتحرير البلاد من نير الاستعمار الأجنبي.
وفي سنة 1919، انتقل هذا الفنان إلى مدرسة الفنون الجميلة “بالاس” بمدينة تارتو، حيث درس النحت على يدي النحات أنطون ستاركوبف. وبعد سنتين من هذا التاريخ، حصل على منحة لمتابعة دراسته بمدرسة الفنون الجميلة بدريسد بألمانيا، ما مكنه من تملك وإتقان فن النحت. وكانت أعماله، أثناء هذه الفترة،متأثرة ببصمة الرسام والنحات الألماني أوتو ديكس، الذي وثق إكراهات الحياة اليومية، وبشاعة وخراب المدينة، بعد الحرب العالمية الأولى.
وخلال الفترة الممتدة ما بين 1924 و1929، أنجز هذا الفنان رسومات توضيحية لمؤلفات عدة كتاب ومبدعين، نذكر من بينهم: جوهان جايك، وإدوارد تينمان، وجاكوبكورف، وهانز كروس، وفرنسوا مورياك، وألكسندر بوشكين، وجيروم بوش، وسباستيان برانت، إضافة إلى جيوفاني بوكاتشيو.
وفي سنة 1925، حصل على منحة من مؤسسة الفنون الزخرفية الإستونية، ما مكنه من متابعة تكوينه الأكاديمي، في مجال الفن، بأكاديمية لاشوميير الكبرى بباريس. ومع حلول سنة 1927، عرض فيرالت أعماله الفنية بأروقة مجموعة من البلدان الأوروبية والأمريكية، علاوة على الإفريقية.
ومنذ اندلاع الحرب العالمية الثانية، عاد هذا الفنان إلى موطنه الأصل، ليصبح من رواد الفن بالبلد، ومستشارا بالمطبعة الوطنية بمدينة تالين. وبعد احتلال إستونيا، من طرف قوات الاتحاد السوفياتي، خلال سنة 1940، وتدمير مدينة تالين، وعدم بزوغ انفراج في الأفق لهذه الأزمة السياسية، غادر هذا الفنان البلاد، بذريعة تنظيم معرض للوحاته بفيينا. وبعد جولات قادته لألمانيا والسويد، استقر به المطاف، مرة ثانية، بباريس سنة 1946، حيث توفي يوم 08 يناير 1954 بمرض عضال، ودفن بمقبرة الأب لاشيز بذات المدينة.
وبرحيل فيرالت تكون صفحة مضيئة من توهج الإبداع الإستوني الحديث قد انطوت، فإذا كان لكل بلد عباقرةوأساطير فنية خاصة به، فبالنسبة للإستونيين، يعتبراسم هذا الفنان مرادفا للعبقرية الإبداعية والبراعةالمتميزة في فن الرسم والنحت، علاوة على النقش.
رحلة المغرب
ما بين سنتي 1938 و1939، وقبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، توجه فيرالت إلى المغرب، بهدف الاستجمام، حيث استقر بحي القصور بالمدينة العتيقةلمراكش. وأثناء هذه الفترة، تحولت لوحاته من التعبيرية إلى اعتماد خطاب أكثر هدوء وقرب من الطبيعة. كما اكتشف ثقافة أخرى ومحيطا مغايرا، لم يكن له سابق معرفة بهما، فتأثر بسحر المدينة الحمراء، وببساطة وعفوية سكانها، إضافة إلى عبق التاريخ الذي يفوح من مختلف أرجائها، فأقبل يرسم، بحيوية وانشراح كبير، بورتريهات ومشاهد من الحياة اليومية المغربية، مثل: مراكش، وسور مدينة مراكش، والرجل الهرم، والمرأة الصحراوية، والمرأة الأمازيغية، والطفل الأمازيغي (1938) ومشهد قرب مراكش، والجمل العربي (1939).
وتحتل النقوش واللوحات التي أنجزها هذا الفنان بمراكش مكانة متميزة في مساره الإبداعي، لكونهاتحتفي بسكان هذه المدينة، وإرثها التاريخي والطبيعي، وكذا لأنها تمتح من معين التيار الكلاسيكي، بدل التعبيرية والسريالية، اللتين كانتا تهيمنان علىلوحاته الفنية، فيما سبق. وفي وقت لاحق، سواء بفرنسا أو بإستونيا، ظلت مراكش والمغرب حاضرين بذاكرتهومخياله، ما أوحى إليه بإنجاز رسومات ونقوش أخرى عنهما، مثل لوحتي: الفتاة الأمازيغية والجمل، والصبي العربي (1940).
وخلال شهر نونبر 2010، تم، بحضور إيني إيرجما، رئيسة البرلمان الإستوني، وقتئذ، وضع لوحة تذكارية على مدخل المنزل الذي قطنه هذا الفنان بمراكش، مخلدة لمروره اللافت والحافل بالعطاء، ومكتوب عليها باللغات العربية والفرنسية، إضافة إلى الإستونية ما يلي: “هنا عاش الفنان التشكيلي الإستوني الكبير إدوارد فيرالت من 31 يوليوز عام 1938 إلى 17 فبراير عام 1939“.
ولهذا الفنان دور كبير في مجال الدبلوماسية الموازية، حيث عرف بالمغرب وبأناسه الطيبين، ومناظره الخلابة لدى مواطنيه، عبر قناة التشكيل الجميلة. وهذا ما أكده رافيو تام، رئيس مجموعة الصداقة البرلمانية إستونيا–المغرب، أثناء زيارته، يوم الإثنين 30 يناير 2023، لمجلس النواب المغربي، حيث قال: “إن للمغرب مكانة خاصة لدى شعب إستونيا، الذي يحتفظ بذكريات جميلة عن هذا البلد، بفضل أعمال الرسام الإستوني الشهير إدوارد فيرالت، الذي عاش في المغرب في الثلاثينيات من القرن الماضي“.
ويبقى الأثر
تخليدا لذكرى وفاة فيرالت، أصدرت المؤرخة والناقدة الفنية الإستونية ماي ليفين كتابا فنيا يحمل عنوان “إدوارد فيرالت“، ويضم هذا المصنف نبذة عن حياة هذا الفنان ومساره الإبداعي، وصورا لمجموعة من أعماله الفنية، علاوة على مقالات عنه باللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية، إضافة إلى الروسية. وسنة 1997، قام الإستونيان هاري مانيل وهنري راديفال، اللذين يعتبران من محبي الفن، بإحداث جائزة فيرالت للنحت، بتعاون مع بلدية مدينة تالين، ومتحف الفنون الجميلة بهذه المدينة. ومنذ سنة 2004، تقدم وزارة الثقافة الإستونية ومركز الإبداع الثقافي بتالين منحة، وفاء لذكرى هذا الفنان، لفائدة الطلبة والفنانين الشباب، من أجل القيام بتداريب بالخارج.
وبمدينتي تارتو وتالين، حيث عاش هذا الفنان، فترةهامة من حياته، هناك أزقة تحمل اسمه، تخليدا لذكراه، واعترافا بالمجهودات التي أسداها، خدمة للفن والثقافة الإستونيين.
وبمناسبة تنظيم الأيام الثقافية الإستونية بنيويورك،خلال الفترة الممتدة ما بين 14 و16 أبريل 2023، تم عرض مجموعة من الأعمال الفنية لفيرالت، وفيلم الرسوم المتحركة “الجحيم” للمخرج الإستوني رين رامات المستوحى من لوحة هذا الفنان التي تحمل ذات الاسم،والمنجزة ما بين سنتي 1930 و1932 بباريس.
وخلف فيرالت ثروة فنية كبيرة تقدر بما يناهز 400 نقش وحوالي 4000 رسم، ويمكن رؤية نماذج من هذا المنجز البصري الهائل، ضمن مجموعات ألبرتينا بفيينا، ومتحف الإرميتاج بسان بطرسبورغ، إضافة إلى متحف الفن بتالين. ويعتبر هذا المنجز الإبداعي المتميز وثيقة فنية وتاريخية شاهدة على التطور الفني الغني والمتنوع لهذا الفنان، الذي كان يبحث دائما عن الأفضل، ويجعل أعماله الفنية ترجمانا، بوعي أو بدون وعي، يمور بما تعتمل به دواخله، خلال النصف الأول من القرن الماضي، الذي تميز باندلاع الحروب والقلاقل الكونية.
لقد كان فيرالت مواطنا عالميا، وفنانا عابرا للحدود، فأغلب بقاع المعمور قد آوته أو استضافت معارضه، وإن كان قد رحل، فإن أثره لا زال باقيا في عدة مناطق من العالم، ويشهد على نبوغه الفني، وغنى وتنوع تجربته الإبداعية، في مجالات الرسم والنحت، إضافة إلى النقش.