ولد فريد بلكاهية بمراكش من امحمد بلكاهية وزهور بلقايد، وقضى جزءا من صباه بأمزميز، بعد أن ترك أبوه تجارة رحيق العطور التي مارسها بنجاح وبغير القليل من المغامرة، ليتحول إلى موظف بالمراقبة المدنية الفرنسية. رحل فريد صغيرا إلى أزمور والجديدة لمتابعة دراساته الابتدائية قبل أن يعود إلى مراكش حيث أنهى دراسته الثانوية بثانوية مانجان. ووقتها كان قد بدأ الاشتغال بالتصوير الصباغي، فدفعته رغبته المبكّْرة في الاستقلال بنفسه إلى الرحيل إلى ورززات والتّدريس بها لمدة عام.
وبفضل أبيه تشبع صغيرا بالفن. فقد كان أبوه ترجمانا من ضمن الوفد الرسمي الذي حلّ بالعاصمة الفرنسية لتدشين مسجد باريس سنة 1926 . وبما أنه كان أيضا يمارس التشكيل في أوقات فراغه فقد كان على علاقة وطيدة بالفنانين التشكيليين أنطوان وأوليك وجانين تيسلار، اللذيْن التقى بصحبتهم نيكولا دو ستيل. بل إن فريد بلكاهية قد تلقى أولى حصصه التعليمية صحبة مولاي أحمد الإدريسي بمرسم أوليك تيسلار.
رسم فرد بلكاهية منذ سن الخامسة عشرة بورتريهات بالألوان الزيتية ستكون في أصل ما سيسميه في ما بعد “مرحلته التعبيرية أو مرحلة بّراغ”. وفي سنة 1954 ، أقام أول معرض له بفندق المامونية الذي كان يمرُّ باستمرار أمامه، وحيث كان ونستون تشرشل يقيم أحيانا لرسم مناظر جبال الأطلس.
وفي سنة 1955 ، غادر المغرب متوجها إلى باريس. وبوصاية من صديق لأبيه استقبله الكاتب فرانسوا مورياك الذي عثر له على مسكن بالمعهد الكاثوليكي بزنقة مادام. قام فريد بلكاهية بالتسجيل في مدرسة الفنون الجميلة بباريس بمراسم بريانشون ولوغول، ولن يتركها إلا سنة 1959. وهناك التقى مجددا بصديقه الفنان التشكيلي الجيلالي الغرباوي.
وفي السنة نفسها، شارك في المهرجان الدولي للشباب العالمي بفارسوفيا، في مسابقة العدْو، بمعية زاطوبيك.
اكتشف فريد بلكاهية في نفسه وَلعا مبكرا بالسينما وأصبح يرتاد باستمرار الخزانة السينمائية الكائنة بزنقة أولم. وبمناسبة تكريم السينمائي سيرج يوتكيفيتش الذي جاء إلى باريس ضمن الوفد الرسمي المرافق للرئيس السوفياتي خروتشوف، اتصل به وبفضله قضى أمسية كاملة برفقة السينمائي الفرنسي الشهير أبيل غانس. وبما أنه ظل عاشقا للسينما ومفتونا بها، فقد ارتبط بعلاقة صداقة مع فنانين من هذا الوسط، كبيير براسور ثم في ما بعد، براوول رويز الذي أنجز سنة 1985 فيلما تسجيليا عن مساره الفني بعنوان: “بايا وطالا أو دار فريد بلكاهية”.
وفي سنة 1956 كان من ضمن الوفد الطلابي المغربي الذي انتُدب للسلام على السلطان محمد الخامس بجناح هنري الرابع بسان جرمان أون لاي وحضر البيعة الشهيرة للكلاوي.
بــــراغ
في سنة 1959 ، وبدافع فضولٍ للتعرف على التجربة الاشتراكية في البلدان الشرقية، سافر فريد بلكاهية إلى براغ حيث تابع دراسته في السينوغرافيا بأكاديمية المسرح بالعاصمة التشيكوسلوفاكية. وهناك تعرَّف على فنان الكراكيز الشهير طركنا، وأيضا على شخصيات ثقافية معروفة كأراغون وإلزا تريولي أو أيضا رافي شنكار. ثم أصبح مذيعا بطلب من الإذاعة الفرنسية لراديو براغ.
وهناك ببراغ، بلغت أعمال فريد بلكاهية ما يمكن أن نسمّيه مرحلة النضج. فهوْس الدائرة والسَّهم ظهر في تلك المرحلة كأبجدية شخصية ستشتغل طيلة حياته الفنية باعتبارها معْلما ضروريا للتعبير عن تصور خاص للوجود. فقد اعتبر فريد بلكاهية وفي وقت مبكر أن الوجود مجموعة من القوى الأرضية، تسعى من خلال التواصل القوي مع العناصر في تعددها الفائق، إلى ضربٍ من الكلِّية الصوفية. وإلى هذه المرحلة يرجع أيضا اهتمامه المخصوص بالعنف الإنساني والتعذيب، وهكذا زار سنة 1955 معتقل أوشفيتز. كما أثار اهتمامه البالغ هنري أليغ في كتابه “المسألة” الذي يصف فيه بقوة مظاهر التعذيب بالسجون الفرنسية بالجزائر التي طالت الوطنيين الجزائريين. وسوف يلتقي به فريد بلكاهية ويحاوره مرات عديدة. ذلك ما سيسمى في ما بعد “المرحلة التعبيرية أو مرحلة براغ”.
كان ذلك العصر مظلما، وغدا أكثر إظلاما بسبب الضغط الذي مارسه النظام الشيوعي لبراغ. فالشخصيات التي تبدو غالبا ممدَّدة ومشوهة تبدو كما لو أنها اقتُلعت لا من ذواتها وإنما من مفهوم الإنسان نفسه. تتشوه الأجساد كما لتطابق الخطوط المتكسرة للقلق الآسر والألم المكين. فتلك الشخصيات التي تبدو منذورة لانتظار لا موضوع له ولا بداية، تعبر عما هو أكثر من الموت، أي عن استحالة الموت، كما لو أن مفهوم الموت نفسه، وقد عُري من بعْد الصيرورة فيه، يسلب منها إنسانيتها.
هذا الانشغال بالألم الإنساني، لن يفارق أبدا فريد بلكاهية. بيْد أن عمله سوف يأخذ وجهة مغايرة عند عودته إلى المغرب. ففي سنة 1962 ، التمس منه المحجوب بن الصديق وكان وقتها كاتبا عاما للاتحاد المغربي للشغل، أن يتولى إدارة مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء. وهي المهمة التي سيقوم بها بتفان حتى سنة 1974.
وفي السنة نفسها اقترن بالتشيكية ألينا نوفوتنا، التي كانت حينها مترجمة فورية متخصصة في اللغة اليابانية.
مدرسة الفنون الجميلة ،التوجه الفلسفي
كان همُّ فريد بلكاهية يتمثل في تجديد مفهوم الفن وتعليم الفنون، لهذا أحاط نفسه بمجموعة من الرواد سيسِمون تاريخ الفن بالمغرب.
هكذا نادى على محمد المليحي، الذي كان قد عاد لتوِّه من الولايات المتحدة، للإشراف على معمل التشكيل، وعلى محمد شبعة، والحميدي وحفيظ، كما على طوني مارايني لتدريس تاريخ الفن، وبيرت فلينت الذي تكلَّف بتاريخ الفنون الشعبية بالمغرب، وأيضا جاك أزيما الذي أشرف على معمل الرسم…
وبذلك سعى بلكاهية سعيا حثيثا إلى تثبيت دعائم تعليم أكثر ملاءمة لثقافته ولخصوصية الواقع التاريخي لبلده. كما جهَد أيضا في أن يكون هذا التعليم أكثر تحررا وسهر على ألا يعاني الطلبة من الضغوط التي عانى منها هو في مدرسة الفنون الجميلة بباريس.
إضافة إلى ذلك، فإن اهتمامه العميق بذاكرة الإنسان ومساره من خلال تراثه، الذي ما فتئ يتزايد ويتسع، سيٌملي عليه منذ البداية إنشاء ورشات لتعليم تاريخ الصنائع التقليدية المغربية، من الزّربية حتى الخزف والفخار، مرورا با لحى الفضية، ولم يكُفّ بلكاهية عن تكرار هذا المبدأ: “لا يمكن إدراك الحداثة إلا انطلاقا من تمثل القيم العتيقة”.
وتبعا لهذه الروح أيضا سينجز أول تجربة للفن في الشارع، بتنظيمه معرضا كبيرا بساحة جامع الفنا الشهيرة، وذلك كما صرح هو ب نفسه ، “للتمكن من مواجهة بين عوالم فكرية لم تتح لها أبدا فرصة اللقاء”. كانت تلك تجربة فريدة وغير مشهودة بالمغرب كان لها صدى هائل، بحيث تمّ إدراكها باعتبارها بداية لدمقرطة الفن بالمغرب بالرغم من أنها ظلت تجربة يتيمة.
ودائما بهدف منح طلبة المدرسة بعْدا عالميا في تعليمهم، استضاف بلكاهية فنانين من قبيل: ديمترينكو، وسيزار، ولورسا. وقد خصص حينها الكثير من وقته للمدرسة، وتخلى عن الصباغة الزيتية على الورق بحيث أخذ عمله وجهة أخرى. وبدأ رحلة طويلة في صلب المادة لا تزال لحدّ اليوم تشكّل أحد الرهانات الهامة في أعماله. بيد أنه لن يتخلى أبدا عن الرسم على الورق. فعدا الكثير من دفاتر الرسم التي يُراكمها الواحد تلو الآخر، فإنه يصمم أعماله دائما على الورق