د. الغزيوي بوعلي / فاس
إن المتمعن في هذا السؤال المنهجي الذي هو عبارة عن تفكير في الماهية، يجد نفسه أمام واقعة تنطوي على مفهوم، وااستشكال. فهذا الطرح يفيدنا في ضوء ما ينتظم في أفق الاهتمام الذي يجعلنا نعتبر أن هذا السؤال عبارة عن إدراك أناوي من زاوية السؤال، أما من ناحية الإبداع فنجعل الفرع يفرغ الأصل وأن المعنى يحتوي الشكل، لأن عملية الفحص في الاستشكال الجذري للمبدع أو الفنان يجعل تفكيرنا إعانة على بلورة فلسفة جديدة، لا ترى في هذا السؤال أي إشراق وتمعن في جذرية الفنان، لأن هذا الأخير لابد يراكم قواعد، وتجارب وممارسات، وإبداعات ومكابدات لكي يكون جديرا بهذا الاسم.
إن النقاد الحداثيين والمعاصرين لم يبحثوا في هوية هذا الاسم (فنان) من حيث التشريع المرجعي الثقافي، ومن حيث البناء التشخيصي والفني، والفلسفي والجمالي، إلا في أفق معنى المبدع، وهذا الأمر هو الذي جعلني أطرح السؤال مرة أخرى ما هو القانون الذي يجعل الفنان إمكانا أصليا في بنية الإبداع؟ فهذه الأسئلة التي تطاردني، تجعل الكتابة حول هذا الإنسان مفتاحا فينومينولوجيا يتخذ من مسألة التوظيف الرمزي حائطا ماديا ليس بالمرجعية الثقافية، ولا بالنضال الفكري والسياسي، ولا بالجهود الفلسفية، بل بصناعة الصدفة التي يسجلها عليه أهل البرهة، والهبة وأهل الصفوة، والصبوة. إنها محنة تولدت في ثقافتنا العربية واتخذت عدسة الارتزاق دون التحرر من السؤال هل أنا ممثل أو شاعر، أو قصاص … صيغ أنتربولوجية تعيد بناء الأسئلة في ضوء رؤية تأويلية جديدة من سؤال من؟ إلى كيف؟ ولمن؟ لعل الوعي النقدي الذي ينعتق من الدهشة الفوضوية والفطرية لتأسيس إمكانية تاريخانية لاعتماد “الفنان” هو مقاوم، ونبي، وخالق، ومبدع، ومبتكر، يحارب الموت، والفن، لكي يضفي على وجود الإنسان دهشة استيتيقية من الفكر والجمال، والتفلسف، والحرية، والإشراق.
إنها مسألة صنفت بوصفها ظاهرة تاريخانية كما يقول عبد الله العروي، فهي في أصلها مسألة إبداعية تدل على المعنى الشامل لمفهوم الإنسان المثقف، والداعي، والمغير والمفسر، لا من حيث الصيغة المدرسة التي تتخذ شعار “أنا أفكر، بل تحولت إلى الفن المطابق للواقع.
وهذا الانزياح من المعنى الحرفي “الفنان” إلى المبدع المستنبط من الفن “الواقع” جعل المعنى الابستمولوجي للفن مصدر المعنى كوجود لممكن، وليس الكائن كما صار منفعة فلسفية تجريبية تؤسس ذاتا متكاملة، وتضع الإنسان في الاعتبار أنه فاعل في التاريخ الإبداعي، وليس منفعلا، ولا مستهلكا للأدوار، والوظائف.
إن قصدي هو تجدير الدلالة الإبداعية السائدة للفظة “الفنان” بإخراجها من العادية إلى مستوى تاريخي متحول، حيث تشير هذه اللفظة إلى مستويات، هناك، المبتدئ، والمحب، والمتعاطف، والمتسلط والداهية، والمرتزق، والصانع، والسابك، حيث يجدر بهذه الكلمات أن تدل على معاني التي لا تثوي في قاع فهم عامي بالمعنى المشار إليه، لأن الرهان هو انتحال من طور الارتجال إلى طور الصنعة الفلسفية لسؤال هل أنا … ومن أنا؟ ومن نحن؟ أسئلة تطرح أيضا للتحرر من البراديكم الذات المتعالية، والمنغلقة من أجل بناء “الهوية”.
فالقراءة التأويلية تجعل هذا الطرح يقبل هذا الانزياح كضمير الغائب وكرابطة منطقية وأنطولوجية، ومن ثم تأخذ الهوية الإبداعية خطابا يفرض فسلفة مغايرة كصيغة راهنة الحاضر والمستقبل.
إن الاستمرارية سمحت لنا بالالتحاق بهذا النمط الاستشكالي الذي دشنه هيدجر وفوكو وحنا أرتدت في كتابها The human condition P 10 وHistoire de la sexualité وخاصة في فصل (Le souc de soi) فظل هذا النمط يتحدى الأشكال والأساليب السائدة كما نلاحظ في كثير من الملتقيات حيث تتألف من حركات نزعاتية تقوم بإلغاء أي توافق في الآراء يمكن أن يطرح كبديل أو كأرضية.
لذا اكثرت السريالية، والعبثية والمستقبلية التي تمجد التكنولوجيا وتعمل على تحويل الإنسان إلى أشياء داخل فضاء مغلق، وهذا يعني أنه يقع خارج الواقع، والسبيبة، وخارج الشرعية.
وهذا العمل المدني الذي يؤلف بين هذه الجماعات لا يكون دوما مطابقا للمعنى نفسه، أو الذات نفسها، أو الواقع نفسه، أو الطريقة نفسها في الوجود، فإن ذلك هو الوسيلة التي تقود إلى تدمير العمل الإبداعي، وتحطيم أحلامه ومراميه الوجودية، وبذلك سنجعل منه إنتاجا كباقي الإنتاجات الأخرى التي تتقاسم الواقع، فيظهر في شكل تماثل أو تصور، فإزاء هذا التصور والحكم الفاشل، أصبح العمل الإبداعي يتهاوي بين أيادي الملاعين والمرتزقين، دون البحث عن أسس جديدة يعيد، فالفنان هو الذي يعبد ويبدع الإنسان المعرفي من جديد، يحس ويشعر بجوهر الأشياء، لا من يعدها أو يحسبها، وليست مزية الفنان أن يقول أنا هنا، بلل مزيته أن يخرج هذا الكائن بالقوة إلى فعل الممارسة الإبداعية، ويقول ديكارت في هذا المقام “إننا لا نشاهد أن بيوت مدينة تهدم جميعها لمجرد الرغبة في إعادة بنائها على نظام آخر، أو لتصير طرقها أجمل، ولكننا نشاهد أن كثيرين يهدمون بيوتهم لإعادة بنائها، إنما يضطرون إلى ذلك أحيانا عندما تكون بيوتهم مهددة بخطر السقوط بنفسها، أو غير ثابتة القواعد(1). وانطلاقا من هذا الطرق المقدم، فإن وضوح العلاقة الصناعية الرمزية لا تكون عبارة عن مغالطة سوفسطائية، بل تتأسس على أسس استدالية وبرهانية تسمح للوعي النقدي بالارتباط النظري والتاريخي للجدل الغير المؤسلم كما عند الفقهاء وبائعوا سكوك البطائق “للفنان – فالإعاقة معذورة لأن الزمان الذي نعيشه زمن اللئام، والإيدلوجيني، كما يقول تيري إيجلتون في كتابه أساطير السلطة(2)، إن الفنان مرتبط بالرمزي، وبالسيناريوهات المرتبطة بالذاكرة وبالنموذج التصاعدي، والتنازلي، لأن إيمانه بالقدرة وكفايته في تأسيس الذاتية، ليس عبارة عن وعاء يملأ كما تقول السلوكية، بل هو بؤرة الإبداع، وسيرورته، حيث يجعله منتوجه يعيش صراعا سوسيومعرفيا قصد تأسيس تمثلات جديدة عبر وسيلتين: الاستيعاب والتلائم كما يقول فريدريك بارليت في كتابه (سيكولوجية القراءة) ص 22.
إن تركيز على الذاكرة لمعرفة عمليات التي تقوم بها الذات العارفة أثناء عملية الإبداع، نحس بأنها تلعب دورا بالتذكر وتندمج مع العالم الداخلي والخارجي مما يكسبها حبكة تاريخانية كمتواليات إبداعية جديدة.
– بداية أشير إلى أن الاهتمام في قضية الثقافة تعبير عن موقف فكري يرى في الثقافة عنصرا أساسيا من عناصر حياتنا التي تشمل جميع جوانب نشاطنا الإنساني وهذا الاتساع في تحديد مفهوم الثقافة يتطلب أن نوحد في قراءتنا لواقع الثقافة الراهن بين أزمة المجتمع بعامة (عامة) وأزمة بخاصة (خاصة) من خلال عرض الجوانب التي تتجسد فيها هذه العلاقة العضوية بين الثقافة وبين مختلف أشكال النشاط الإنساني التي تتشكل فيها مجتمعة مع الثقافة مجمل قضايا بلادنا في الواقع (واقعها الراهن) وفي آفاق تطورها اللاحق – فإذا تناولنا علاقة الثقافة بالسياسة نجد أن الثقافة بالمعنى الحديث بخاصة وفي شروط التبعية والانعثاق بعامة تستدعي السياسة وتتضمنها بل تشكل معها وحدة عضوية غير قابلة للانقسام حيث تلتقي العلاقتان في حقل التحويل المجتمعي حيث تنزع الثقافة إلى إنارة السياسة وتحويلها – وتتطلع السياسة إلى تحويل جملة العلاقات الاجتماعية ومنها العلاقة الثقافية.
إن حضور السياسة بالمعنى المجتمعي (المجتمع) أيضا مقدمة لتهميش الثقافة وتغييبها هنا تتداخل سمات الثقافة والسياسة مع أن الثقافة يجب أن تكون مستقلة عن السياسة. إن وجود السياسة يفترض وجود ذات بشرية حرة وهي حرة لامتلاكها وعيا ثقافيا متطورا – يجعلها قادرة على التميز والمقارنة والرفض والاحتجاج والقبول والاختبار والمبادرة – إضافة لذلك فإن ما يؤشر لوجود الحياة السياسية في مجتمع معين يتحدد بالحركة والمبادرة الشعبية أو بما اصطلح على تسميته بحوارية العلاقات الاجتماعية. وعلى هذا فإن وجود الأحزاب السياسية ليس مؤشرا بالضرورة على وجود حياة سياسية طالما أن المؤشر الحقيقي للسياسة هو الحركة الشعبية. يمكن استنادا لما تقدم الاستنتاج بغياب السياسة أو انطفائها في بلادنا وتفريعها من مضمونها الأساسي القائم على الثقافة والمعرفة ويعود ذلك لعاملين مرتبطين:
ü العامل الأول: هو الانهيار للمشاريع الكبيرة ولمرجعيتها الفكرية الأمر الذي حول السياسة بعيدا عن ميدانها الحقيقي وبعيدا عن قوانينها ومعاييرها وإفراغها من محتواها الثقافي والإنساني.
ü العامل الثاني: هو غياب الديموقراطية ومصادرة الحريات والإرادة الشعبية وتسخير الأجهزة الأمنية في عمل منظم هادف إلى جعل كل لشيء بما في ذلك الثقافة والمثقفين في خدمة السلطة الدموية.
جدلية العلاقة بين الثقافة والسياسة تستدعي أيضا جدلية العلاقة بين المثقف والسياسي. إن معاناة المثقفين خلال العقود الأربعة الماضية تشير إلى خلل كبير في العلاقة بين المثقف والسياسي على الصعيدين الرسمي وغير الرسمي هذه العلاقة لم تكن متكافئة في أي وقت.
– فالسياسي صاحب القرار يعتقد على قوى تقليدية لا علاقة لها بالثقافة بمفهومها المعرفي وبالتالي فإن السياسي المحترف لا يتعامل مع المثقف بندية، بل يرى أن دور المثقف ينحصر في تبرير السياسة، في حين أن الابتعاد عن السلطة والاحتفاظ بمسافة بين المثقف وبها حلم مطلوب وعقلاني إذ أتيحت الفرصة للمثقف في أن يقيم مثل هذه المسافة. السلطة التي أعنيها ليست مقصورة على النظام الحاكم وإنما يشمل المؤسسة الحزبية حتى لو كانت في صفوف المعارضة والسلطة الدينية وسلطة الرأي العام والتقاليد السائدة وسلطة الخطاب الثقافي نفسه، ولكن السؤال الذي يطرحه أكثر من مفكر هل يستطيع المثقف فعلا لا قولا أن يتحرر من قوة الولاء والتعصب لهذه الجهة أو تلك وهو نتاج هذا المجتمع المتخلف – وهل يستطيع زعمه التحرر من هذا الولاء أن يصعد أمام المحك.
إن استقلال المثقف لا يعني الابتعاد عن العمل السياسي والمفروض أن يستكمل المثقف بالعمل لسياسي ما قد لا يقدر العمل الثقافي على الوصول إليه بالسرعة الكافية من حيث النهوض بأحوال المجتمع فالمثقف المنغمس بهموم عصره والملتزم بواقعه مع حرصه على الثراء المعرفي والتجديد الإبداعي هو حاجة ملحة لبلادنا وهو صاحب دور كبير في هذا الزمن المتعثر والكئيب.