بوشعيب الخياطي
يذهب أغلب النقاد والباحثين السينمائيين الذين تناولوا بالدرس والتحليل ظاهرة سينما المؤلف ، إلى أن هذه السينما ما هي في حقيقة الأمر، إلا أسلوبا جديدا في صوغ المادة السينمائية وتقديمها ، يختلف عما روجت له السينما التقليدية من طرق ووسائل في صنع المنتج السينمائي واستغلاله وتوزيعه . غير أنهم لم يتفقوا جميعا على حصر خصائص هذا الأسلوب وتحديدها بشكل دقيق ، فهناك من توسع في تعداد هذه الخصائص لدرجة يمكن القول معها إنه بالإمكان إدراج أي فيلم سينمائي في إطار سينما المؤلف ، وهناك من حدد هذه الخصائص في مجال ضيق جعل من الصعوبة بمكان الحديث عن ظاهرة اسمها سينما المؤلف .
فسينما المؤلف هي عند البعض كل منجز سينمائي يحمل رؤية متفردة ويعكس الأسلوب الفني لصاحبه ، وهي عند البعض الآخر كسر لمألوف السينما التقليدية ، وهي عند فريق ثالث بحث وتجريب مستمرين لا ينتهيان ، وهي عند فريق رابع كل منتج سينمائي ينسب لمخرجه .
المنشأ الأوروبي
وبالعودة إلى التاريخ نلاحظ أن أقطاب سينما المؤلف قد حاولوا ، انطلاقا من خمسينيات القرن الماضي ، أن يقيموا ثقبا في جدار السينما التقليدية ، بشكل يمكن من الانتقال الهادئ والسلس والذكي إلى أسلوب سينمائي جديد يجعل من السينما فنا إبداعيا لا يختلف عن الفنون الإبداعية الأخرى ، يعبر عن رؤية معينة للحياة عبر شكل تعبيري حداثي غايته الأساسية إثارة الدافعية لدى المتفرج للتفكير وطرح الأسئلة والمجاهدة الذهنية . ولعل أبرز من مثل هذا الأسلوب المخرج الفرنسي جان لوك غودار الذي سعى عبر معظم أفلامه إلى اجتراح حساسية سينمائية جديدة تقوم على أساس الرؤية الذاتية الفريدة للمخرج ، وتفكيك القواعد التقليدية للسرد ، ولتكوين اللقطة ، ولتركيب الفيلم ، ولمخاطبة المتفرج .
إن الفيلم السينمائي عند غودار وعند غيره ممن ينتمون إلى الاتجاهات الطليعية في السينما كفايدا وبيرغمان وتاركوفسكي ينبغي أن يحمل على المتسوى الدلالي رؤية فلسفية منسجمة إزاء الحياة والكون والإنسان تعكس فكر المخرج ، وأن يستعين على المستوى الدالي بشبكة جديدة من أشكال التعبير قائمة أساسا على بلاغة الصورة ، وأن يستهدف على المستوى التداولي نخبا لها من الإمكانيات ما يساعدها على تفكيك الإشارات والعلامات وتأويل الرموز والإيحاءات .
محاولات متناثرة
إذا كانت هذه بعض من ملامح الصورة العامة لسينما المؤلف في منشئها الأوروبي فما هو يا ترى حالها في العالم العربي ؟
يرى معظم نقاد السينما بالعالم العربي ، أن سينما المؤلف لم تتحقق في المنجز السينمائي العربي بالصورة التي تحققت بها عند روادها الأوائل في فرنسا ، ومن سار على دربهم في بقية الدول الأوروبية كالسويد وبريطانيا وبولونيا وإيطاليا لأسباب تاريخية واجتماعية وفنية . غير أن ذلك لم يمنعهم من الإشارة إلى بعض المحاولات التي سعت إلى الاقتراب من هذه السينما كبعض أعمال يوسف شاهين ويسري نصر الله والطيب الوحيشي ومومن السميحي ومحمد ملص . ويرى هؤلاء النقاد أنه من الأفضل أن يتم الحديث في السينما العربية عن مفهوم السينما البديلة عوضا عن مفهوم سينما المؤلف ، ويقصدون بالسينما البديلة ذلك التعبير السينمائي الذي ظهر بالعالم العربي قبيل نكسة 67 بقليل والذي سعى إلى تشكيل فكر جمالي جديد يقطع الصلة بشكل كامل مع ذلك التوجه الذي ينظر إلى السينما باعتبارها سلعة للربح ووسيلة للترفيه . غير أن مصطلح السينما البديلة لا يستقيم الحديث عنه في نظرهم إلا في ظل وجود سينما تجارية واضحة المعالم ثابتة الأركان ، والحال أن البلد العربي الوحيد الذي يعرف هذا النوع من السينما هو مصر ، أما بقية البلدان العربية فلا يصح أن يتم الحديث فيها عن تجربة بديلة اللهم إذا كان الأمر يتعلق بتجربة بديلة عن السينما التقليدية القادمة من مصر أو من أوروبا أو من الولايات المتحدة أو من الصين أو من الهند .
الحالة المغربية
فهل يمكن – تبعا لهذا الاعتقاد – أن نقر بوجود سينما المؤلف في المنجز السينمائي المغربي دون أن نجافي الحقيقة ؟
إذا استقرأنا الفيلموغرافيا المغربية ، يمكن أن نميز عموما بين ثلاثة أساليب في التعبير السينمائي ، راهن الأول منها على اختراق وجدان المتفرج ، واستثارة عواطفه ، عبر اختيار موضوع شائع ومتداول يحاك ضمن بنية درامية تقليدية السرد فيها متجه إلى الأمام ( البحث عن زوج امرأتي لمحمد عبد الرحمان التازي – مصير امرأة لحكيم نوري ) وسعى الثاني إلى تقديم رؤية ذاتية مفعمة بالكثير من الغموض والإبهام دونما اكتراث بعناصر الفرجة ( عنوان مؤقت لمصطفى الدرقاوي – حادة لمحمد أبي الوقار) وحاول الثالث صناعة منتج سينمائي لا يعزل الذاتي عن الجماعي ، ولا يفرط في الجانب الجمالي ، ولا يقطع حبل الصلة بالمتلقي ( ألف شهر لفوزي بنسعيدي – هم الكلاب لهشام العسري ) . ويمكن – تجاوزا – إدراج الأسلوبين الثاني والثالث ضمن سينما المؤلف لأنهما يقومان على أساس مفهوم المخرج المؤلف الذي يتعامل مع الكاميرا باعتبارها قلما يصوغ بواسطته رؤيته الخاصة للكون وللإنسان ويسعى جاهدا لتمريرها عبر لغة سينمائية جديدة ومختلفة ومتفردة .
غير أنه يمكن القول عموما – ودون خوف من مجافاة الحقيقة – أن السينما المغربية هي سينما مؤلف بالضرورة لا بالاختيار ، ذلك أن مجمل الأفلام المغربية تنسب لمخرجيها فهم المسؤولون عن كل تفاصيلها الفنية والفكرية والمالية بدءا من القصة مرورا بالإنتاج والإخراج والتصوير والتمثيل والمونطاج انتهاء بالتوزيع . فالمخرج المغربي محكوم عليه بأن يكون مخرجا مؤلفا مع سبق الإصرار وبالصيغة المغربية بفعل عوامل مرتبطة بخلفيته الثقافية والفنية وانتمائه الاجتماعي، وسياقات الإنتاج والتوزيع التي يشتغل وفقا لإكراهاتها . فالناظر في سيرة معظم المخرجين المغاربة يجد أنهم ينتمون إلى الفئة المثقفة الحاملة لهموم المجتمع وانكساراته ذات التوجه الحداثي والتي ترى في السينما وسيلة للمكاشفة والبوح ، ولأنهم كذلك فإنهم غالبا ما يتجهون لكتابة سيناريوهاتهم بأنفسهم حتى يستطيعون تحميلها ما يختلج بداخلهم من هواجس وتوجهات . كما أن فرصهم للعثور على منافذ حقيقية للإنتاج ناذرة للغاية لذلك يضطرون لانتظار الدعم العمومي أو البحث عن تمويل أجنبي ، أما الإنتاج الخاص فإنه لا يغامر بتمويل أفلام قد لا تغادر علبها السوداء . ويصطدم هؤلاء المخرجون بعائق كبير يتمثل في أن أفلامهم لا تتجاوز عتبة بعض القاعات السينمائية الوطنية ، وإذا حالفها الحظ فإنها تشارك في بعض الملتقيات السينمائية الوطنية ، أو بعض المهرجانات العالمية التي لا أثر كبيرا لها على ما يعرض بداخلها من أفلام سوى المشاركة أو التنويه المجاني الذي لا ترجى من ورائه فائدة حقيقية .
وبعد فهل نحن في المغرب في حاجة إلى سينما المؤلف ؟ بالتأكيد نعم ، ولكن بشرط أن تحقق ما حققته أفلام بيرغمان ، وأفلام فايدا وأفلام تاركوفسكي . فعلى الرغم من الطابع الحداثي لهذه الأفلام والمتمثل في كسر الألفة والعادة فإن البعض منها قد حقق نجاحا جماهيريا ، وأجمع النقاد على جودته الفنية . أما أن نصنع نسخا مشوهة من سينما المؤلف تسبح في عالم الخيال والميتافيريقا وتغرق في الاستهام والذاتية وتتسلح بالإبهام والغموض ويصبح فيها التجريب هدفا بدلا من أن يكون وسيلة ، فذلك هدر للوقت والمال وحرمان للمتفرج من حقه في مشاهدة السينما الحقيقية . إن هذا النوع من التعبير السينمائي الذي يحشر قسرا في سينما المؤلف لن يستطيع تجاوز علبه السوداء ، ولن يكتب له الخلود في ذاكرة الإبداع السينمائي المغربي ، وكل ما ينفق عليه من مال وجهد هو هدر لن ترجى من ورائه فائدة . فالسينما ليست نزوة ولا ترفا ولا عبثا ، إنها إبداع وتجارة وصناعة وهذا الثالوث غير قابل للتحطيم والتفكيك ، فإغفال أي عنصر من عناصره سيثمر وليدا مشوها فاقدا لشرعية الانتماء للسينما باعتبارها خطابا – وإن كان ممهورا ببصمة صانعه – فإن له مرجعا يستند عليه وغاية يسعى لتحقيقها .