سناء العاجي
بعد أن هدأنا، وبعدنا أن انشغلنا بالأحداث الخطيرة للأسبوع المنصرم، أود أن أعود مجددا لقضية لبنى أبيدار. ليس لأن لبنى أبيدار تهمني كشخص، ولكن لأن حكايتها تترجم عاهات كثيرة في المجتمع، أقترح عليكم أن نعود إليها عبر ثلاث فاعلين وثلاث إشكاليات: نحن أولا أمام إشكالية علاقة المخرج بكل تداعيات الفيلم. نبيل عيوش اشتغل كثيرا على مواضيع التهميش (أطفال الشوارع، الإرهاب، مهنيات الجنس) واختار في مقاربته الفنية أن يشتغل مع أشخاص من هذا المحيط، بدل الاعتماد على ممثلين محترفين. ليس من حقنا مناقشته في اختياره الفني لأن هذا يدخل في إطار احترام حريته كمبدع في انتقاء وتحديد مقاربته الفنية. لكن سؤال المقاربة الإنسانية يستحق الطرح. لا يمكننا أن نطالب نبيل عيوش بتحمل مصاريف ونفقات ممثليه بعد الفيلم. لقد أدوا دورا، أخذوا عنه أجرة… وانتهى الموضوع. لكن لنبيل عيوش مسؤولية معنوية في تأطير هذه العينة من ممثليه (فالممثل المحترف يكون عادة على وعي بتداعيات اختياراته) بخصوص تبعات العمل التي يعيها هو ولا تعيها بالضرور بقية الأطراف. أن تكسر طابو معين عن وعي، فهي مبادرة شجاعة. أن تشرك معك في العملية أشخاصا في وضعية هشاشة اقتصادية واجتماعية وفكرية، ليس لديهم بالضرورة الوعي بتبعات الموقف النهائي، ففي هذا مسؤولية معنوية لا أعتقد أن نبيل عيوش التزم بها. فجأة، يخرج هؤلاء لأضواء الشهرة وهم ليسوا بالضرورة مهيئين لها. يتعرضون لأضواء الكاميرات وللهجوم أحيانا وهم ليسوا مستعدين ولا مسلحين اجتماعيا وفكريا للموضوع. وهنا، لنبيل عيوش مسؤولية إنسانية مهمة. في فيلم “يا خيل الله”، كان هناك مشهد اعتداء جنسي من طفل على طفل آخر. هل كان هناك إعداد نفسي للطفلين لتبعات ذلك المشهد لدى جمهورٍ لا يفرق بالضرورة بين المشهد وبين الواقع؟ لبنى أبيدار ارتكبت بعض الأخطاء التواصلية. طيب. لكن، أليس علينا أن نأخذ بعين الاعتبار كمّ الإرهاب النفسي (والذي تلاه العنف الجسدي) الذي تعرضت له وهي ليست مستعدة له ولا مؤهلة لمواجهته؟ هذا يوصلنا للطرف الثاني في الإشكالية، والذي لا يتحمل مسؤولية مباشرة، لكنه كان يستطيع أن يساهم في التوعية. أتحدث هنا عن بعض الممثلين الذين كان بإمكانهم أن يساهموا في رفع النقاش إلى مستوى آخر. أحيانا، لا يهم الموقف الشخصي من المخرج أو الممثل أو الفيلم، بل أن القضية المبدئية نفسها يجب أن تنتصر. والقضية هنا كانت هي الإبداع. أي أننا لا ندافع بالضرورة عن شخص بل عن مبدأ الحرية في الإبداع. وقد توقعت صراحة من بعض الممثلين أن يقوموا بتفسير شيء قد يبدو بديهيا على مستوى الخطاب، لكنه ليس كذلك في التمثلات والممارسات الفعلية: حين يقدم ممثل معين شخصية ما، فهي لا تعكسه في الواقع. أن تؤدي لبنى أبيدار دور مهنية جنس لا يعني أنها كذلك في الواقع (بغض النظر عن موقفنا من الفيلم). حين يؤدي ممثل دور قاتل، فهذا لا يعني أنه كذلك في الواقع. يبدو هذا بديهيا؟ في المطلق نعم. لكن قضية “الزين اللي فيك” أثبتت الخلط الكبير لدى الكثيرين. وبعض خرجات من بعض الممثلين كانت قد تساهم في تهدئة النفوس وفي توضيح اللبس وتبعاته الدرامية الخطيرة التي تتجاوز لبنى أبيدار كشخص لتسائلنا حول قدرتنا على التعايش في ظل الاختلاف. وهنا، نصل إلى النقطة الثالثة التي يجب أن تستوقفنا بشكل جدي: مستوى العنف على الأنترنيت كان مخيفا. هناك بضعة أشخاص تهجموا جسديا على لبنى أبيدار. وهناك الآلاف ممن لم يمارسوا العنف فعليا، لكنهم ثمنوه وشجعوه وهللوا له، أو على الأقل برروه. في الجرائم، كما في الإرهاب: التصفيق للعنف عنف آخر. تبرير العنف مساهمة فيه. أتصور أن الكثيرين لم يعجبهم فيلم “الزين اللي فيك” (رغم أن أغلب المنتقدين لم يشاهدوه، لكن هذا موضوع آخر). شخصيا، أتيحت لي فرصة مشاهدة الفيلم في نسخته الحقيقية (وليس تلك المسربة على الأنترنيت) وأعتبر شخصيا أنه فيلم جميل جدا. قد لا يكون أفضل أفلام نبيل عيوش لكنه فيلم قوي جميل وأداء لبنى أبيدار فيه كان مميزا قويا رائعا. لكن، لنسلم بأن البعض لم يعجبهم الفيلم. كون فيلم معين لم يعجبنا أو حتى أزعجنا، هل هذا يعطينا الحق في أن نشمت أو نفرح لتعرض أحد أعضاء فريق الفيلم للهجوم الجسدي أو للترهيب النفسي؟ هل يعقل أن فيلما لم يعجبنا، يخرج منا كل طاقات العنف هذه؟ بعض المواقف التي تابعناها على الأنترنيت مخيفة لأنها تترجم تقبلا كبيرا للعنف مع كل من نختلف معهم. بل تشجيعا عليه. من السهل أن نقول إننا نقبل بالاختلاف وإنا متسامحون وإننا متحضرون. مثل هذه الوقائع تؤكد لنا أننا في الواقع مستعدون لتعنيف من نختلف معهم باليد. وإن لم نستطع فبالتصفيق لمن ينوب عنا، وذلك أضعف الإرهاب. سناء العاجي