السبت , 29 مارس 2025

من صور فرجة الوسط البدوي بالمغرب .. الهيت البرنوسي بأعالي ايناون ..

عبد السلام انويكًة

أحيط تراث المغرب الثقافي عموما بعناية معبرة منذ مطلع الألفية لجديدة، على وقع ما حصل من تدخلات واسهامات وأثر هنا وهناك من جهات البلاد، على مستوى توسيع وعاء الوعي بهذا المجال وكذا جرد وإبراز مكوناته ومواطنه وسبل صيانته ورعايته. ولعل من هذا التراث الثقافي اللامادي تحديدا الشفهي، ما هو بدوي جامع بين غناء ورقص وفرجة شعبية فنية فلكلورية، والتي رغم كل الجهود الطموحة لا تزال بحاجة لإنصات بحثي محلي أثنولوجي، من أجل معلومة شافية من مصادرها عن فاعلين حاملين لهذا الإرث وقد تلقوه بدوهم من سلفهم. ولا شك أيضا أن العناية بهذا التراث الضارب في القدم وما يترتب عنه من نصوص واحاطة ودراسة، هو إغناء لخزانته وتثمينا وحفزا على حفظه ونقله للأجيال والناشئة. في أفق ما ينبغي من حماية لهذه الذاكرة الجماعية المغربية، واستثمارها في الأوراش التنموية المستدامة. ويظهر أن من سبل هذا الحفظ، إحياء هذا التراث الثقافي التعبيري البدوي الممتد عبر جميع ربوع البلاد، على وقع ما هو عليه من نقاط تلاقي وتباين إيقاع ومشهد وجدل صورة. وغير خاف أن الاهتمام بهذا التراث ليس لأنه كذلك، انما لكونه هوية لا تزال تطبع حاضر المغرب وهويته السسوثقافية. علما أن احياءه بما هناك من سبل (متاحف، فرجة، عروض، ندوات..)، رهين بما ينبغي من سؤال حول واقع هذا التراث الذي ليس أبدا ترفا فكريا، بل مشروع عمل ورؤية استشرافية بقدر كبير من الأهمية، في أفق نماء شمولي متكامل، حفظا لذخائره وزخم تعبيراته وحمولاته الانسانية الحضارية، ودعما لِما هو رافع من تنمية محلية ورهان جهوي منشود

إشارات بمختصر مفيد ارتأيناها ذات أهمية، لتسليط بعض الضوء حول ما هناك من صور تراث ثقافي بدوي لا يزال شاهدا بأعالي حوض ايناون حيث تازة وممرها، والذي بقدر ما لا يزال حيا في حاضر المنطقة، بقدر ما يعكس بعض ماضيها وهويتها واستمراريتها وتفاعلها مع محيطها وبيئتها، وكذا أزمنتها وأمكنتها وما كانت عليه من انعطافات وتحولات وقضايا. ولعل من تراث تازة حيث تلال مقدمة جبال الريف وحيث قبيلة البرانس، ما يعرف محليا ب”الهيت البرنوسي” أو “لفرايجية” وكذا “تشكلل”، الذي بذاكرة وزمن واحالات بحكم طبيعة مجال ومعيش وانسان وبيئة ومستويات مشترك. ومن ثمة ما كان عليه ولا يزال من تلاقح وجدل معان وثراء وغنى صور بيئة محلية وحياة وإنسانية انسان. ويسجل أن “الهيت البرنوسي” باعتباره تراثا شفهيا بدويا جبليا، هو مساحة تعبير شاهد عن ماض ووجود وقيم وانماط عيش ومشترك محلي، ومن هنا ما يطبعه من صور ومعالم احتفاء وزجل عفوي وأدب شعبي(زريع)، فضلا عن حلقات فرجة ذكورية وأوزان وأدوات موسيقية تقليدية وغيرها من المظهر. وإذا كان هذا اللون الجبلي من الهيت المغربي، ترجمة لفضاء عيش كأحد منابع ابداعه ورؤيته للآخر، فردا وجماعة وأمكنة ووجدانا وجمالا وأسماء وغيرها، فهو بإيماءاته وايحاءاته يعكس ما هو عليه من غنى مخيال جمعي، على وقع وعي محلي وكذا وطني وانساني.

ويسجل أن من تجليات تميز وغنى “الهيت البرنوسي” بمقدمة جبال الريف، ما يطبعه من أثاث حفل وزجل لحظي عفوي فردي تتابعي، ذلك الذي كثيرا ما يبلغ مداه ودروة معانيه وصوره وقافيته وقريحته وتنافسيته، مع تصاعد وثيرة حفل وحماسة راقصين وحفز حاضرين عبر ما يعرف ب(لغرامة). هكذا “هيت” قبيلة البرانس، أسلوب أداء وبناء وفرجة وذات جماعة وشكل تعبير، ضمن بنية ونمط حياة وبيئة حيث بساطة وروح أمكنة، تجعله بمعان ورسائل ورموز ووجدان ونطق محلي وظيفي فني بليغ، ومن ثمة ما يطبع الرقصة “الهيت” من صنعة وعفوية وابداع جامع لحس عال، عبر قول قائم مؤسس على بطبيعة شرط وحوار وتأمل وبوح وجدل وتوهج وردود فعل. إن”هيت تازة البرنوسي” الذي بتعبير فلكلوري جبلي وعرض ذكوري وايقاع وألحان وزجل عفوي، افراز وتعبير عن كينونة فرد وجماعة وتدفق نمط عيش وذاكرة وبيئة ومرجع تاريخ. وهذا التراث اللامادي بالمنطقة هو ايضا ما أثث ولا يزال من لحظات احتفاء (زفاف، عقيقة، ختان، مواسم قروية ..)، وقد افرز أسماء وتجارب ووجوه وفرجة لا تزال بمكانة واعتبار وحضن محلي. فرجة محلية تراثية بدهشة في أثاثها وشكلها وأدائها وأدواتها، التي منها أساسا”التعريجة” و”البندير” و”المقص” والغيطة”، كآلات موسيقية تقليدية موجهة لأنغام رقصة وحركة جسد راقصين “لفرايجية”، ولضوابط أدوارهم وتعبيرهم واهتزازات وجدانهم وقريحتهم الإبداعية. ضمن احتفاء بدوي أصيل بعيدا عما هو تأثيث مادي بيئي حديث، من اجل ما ينبغي من شروط رافعة مولدة لزجل وعفوية أدب شعبي، فضلا عما يحتويه من حكي وجماليات وصور بيئة ومجتمع وثقافة وازمنة وبصمات ماض وحاجات حاضر. ولعل جميع هذا الأثاث الفني التراثي ممثلا في “الهيت البرنوسي”، لا يكتمل الا بقيادة متمكنة ملمة ذات تجربة وكفاية وشجاعة أدبية وكاريزما، والذاكرة المحلة غنية بعدد من الأسماء “المقدمين” الذي كانوا بصدى في هذا المجال لعقود من الزمن، من قبيل المقدم “الحداد” و”معاشو” و”علال دريس” و”الهرنان” وغيرهم من صناع الفرجة “الهيتية ” بهذه الربوع، وقد كانوا بفضل في حفظ هذا التراث الرمزي المحلي وإبقائه صامدا شاهدا شامخا محاطا بجمهور محب عاشق. 

إن “الهيت البرنوسي” هذا الشفاهي الفني البدوي، بقدر ما يقوم عليه من جدور ممتدة قد تكون تعود لبداية تعمير المنطقة زمن العصر الوسيط، بقدر ما هو عليه من تلاقح ودلالات وذاكرة، شكلت غنى المنطقة بتراث إنساني جامع بين بيئة وتشارك في نمط حياة وثقافة وتلاحم وتجليات تعاون وتضامن وموسم، فضلا عن صور جبل ومعيش فلاحي ومجتمع وخصوصية تراب قروي وتعبير، مستحق لكل عناية وتأمل ودراسة وبحث وقراءة لزمنه وتجلياته ومتغيراته. من حيث ما هناك مثلا من حقيقة امتداد تاريخي وبعد ذكوري في الرقصة، فضلا عما هناك من إشارات ذات صلة في المصادر التاريخية المغربية، من قبيل ما أثار انتباه المهدي بن تومرت الموحدي من تعبير شعبي فني محلي على مستوى تازة، زمن نشأة دولة الموحدين بالمغرب. لما كان في طريقه من الشرق باتجاه غرب البلاد مارا عبر تازة وجوارها ومداشرها. وما كان معتمدا مثلا من آلات موسيقية محليا، من قبيل الدفوف وأسلوب رقص جامع بين اناث وذكور، فضلا عما كان يحضر عبر زمن المغرب من احتفاء شعبي في علاقته بمحلات سلاطين، من حيث استقبالهم ومرورهم ودخولهم وخروجهم بين جهة وأخرى، وبخاصة ما كان يؤثث احتفائهم من آلات موسيقية (دف وطبل..).

يبقى أنه ما أحوج تراث المغرب اللامادي الفرجوي البدوي عموما، من تواصل وعناية بجدوره وتعبيراته ورمزيته الإنسانية الحضارية. ولعل من ألوان هذا التراث”الهيت البرنوسي” الشهير أيضا برقصة “لفرايجية و” تشكلل”، والذي بحاجة لمواعيد احتفالية راقية في رسالتها ومنشودها من أجل ما ينبغي من تأصيل معرفي بعيون مختصين ومهتمين باحثين، ومن ابراز لمعالم هذه الايقاعات الجبلية التعبيرية الضاربة في القدم، في افق حمايته انسجاما مع ما هناك من قوانين وطنية ودولية، ومن مخرجات اتفاقات دولية من قبيل اتفاقية باريس سنة 2003 في شأن حماية التراث الثقافي غير المادي، وهي المعتمدة من قبل المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو”. وانسجاما أيضا مع الحقوق الثقافية للإنسان والمنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الانسان 1948، وفي العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادرين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة 1966. وعيا كذلك بما يجسده التراث الثقافي اللامادي من تنوع وما يضمنه من تنمية مستدامة، وبما جاءت به اليونيسكو من توصيات تخص حماية الثقافة التقليدية والتعبير الشعبي والفلكلور 1989، حفظا لهذا التراث مما قد يلحقه من اتلاف لهذا السبب وذاك، من قبيل ما هناك من عولمة وتدفقات جديدة، ولجعل هذا التراث اللامادي في خدمة تقارب انسانية وسلم وسلام عالم.

كل هذا وذاك حول شأن التراث الثقافي اللامادي، يحق معه السؤال حول مخزون تازة وجوارها من التعبير البدوي الفني من قبيل “الهيت البرنوسي”، وحول ما هو عليه هذا اللون التراثي من مشهد وموقع. وعلى أي أساس وسلف وماض ووجدان جمعي وصمود عبر الزمن، يقوم هذا التراث الذي بهذا المكان من جغرافيا البلاد. وما الذي هو بحاجة اليه من دراسة وبحث وملامسة وقراءة لمستويات صوره وهويته، في أفق تنمية مستدامة آخذة بالاعتبار فرجته بكل كيانها من انسان وزمن ومجال. من اجل ليس فقط حفظها وحفظ وظيفتها وتلاقحها، انما أيضا وعيا بكونها أرشيف شاهد على ماض لايزال مستمرا كعقليات ودهنيات. هكذا رقصة “الهيت البرنوسي” بأعالي حوض ايناون حيث تازة، تلك التي بقدر ما لا تزال بوفاء وسياقات ثقافية وأصول، بقدر ما هي بحاجة لتثمين وتنشيط واستثمار ومواعيد رافعة، لجعل تراث المنطقة الثقافي وفنون تعبيرها البدوي، باعتبار وموقع في خريطة النماء المحلي ضمن ما هو منشود من جهوية ترابية متقدمة. 

مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث   

شاهد أيضاً

حميد زيان محظوظ ببنت العم وبنت الفقيه وزواج ليلة تدبيرو عام

كشف المخرج السينمائي والتلفزيوني حميد زيان، عن حظه الوافر هذه السنة، بالاشتغال على ثلاث أعمال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *