حميد تشيش
تقديــــــــــــــم:
الحمد لله الذي أضحك وأبكي،وأمات وأحيى، فعرفنا بلذة الفرح شدة الترح ،وبحلاوة الحياة مرارة الوفاة إلى آخر الآية.
بهذه الآية من سورة النجم ،كان قدامي المضحكين والظراف والمسامرين يفتتحون مجالس الأنس التي كانوا يتسيدونها في حضرة الخلفاء والسلاطين والأمراء،وهو ما يعكس أهمية الضحك والفكاهة في القصور والبلاطات وفي الأسواق الشعبية والساحات والحارات، والوعي المبكر بأفضاله على النفس البشرية ،ذلك أن الضحك يحتل موقعا مهما من انبساط النفس الإنسانية وسرورها لكونه من أهم الغرائز الإنسانية،يقول الجاحظ في كتاب البخلاء:”إن الضحك أول خير يظهر مع الصبي وبه تطيب نفسه ،وعليه ينبت شحمه ويكثر دمه،الذي هو عليه سروره ومادة قوته.”-1 –
ويقول كلين ويلسون:” يحس الإنسان بأنه أفضل عندما يضحك كثيرا، وهذا هو السبب الذي يجعل أغلب الناس يبحثون عن الفكاهة ويقرؤون الكتب والقصص الهزلية …وقد أثبتت التجارب أن استهلاك الفرجات الكوميدية تساعد على التخفيف من حالات الانفعالية غير السارة ،كالغضب والقلق والانزعاج إلخ…..”-2- . وينطوي التراث العربي الإسلامي على مادة دسمة من ألوان التندر والتفكه والهزل والسخرية والمزاح ،وهي أسماء يجمع بينها الضحك كهدف ويفرق بينها الأسلوب والمعنى.
1/ التفكه والتندر في التراث العربي الإسلامي ( ابن الجوزي والجاحظ كنموذجين).
أدرك قدامى العرب والمسلمين أهمية الفكاهة والضحك والتندر،فأقبلوا عليها وحددوا لها آدابها وقواعدها، كما عددوا صفات المتفكه والمتندر والشروط الواجب توفرها فيه، واشتهر التراث العربي الإسلامي بنماذج عديدة من الظراف والمضحكين والمتفكهين أمثال:أشعب وأبو دلامة وجحا وأبو الحسن الخليع وأبو العبروأبو ربوة الزنجي ومحمد الوهراني ، وابن المغازلي في العصر العباسي على عهد حكم الخليفة هارون الرشيد،والذي وصفه المسعودي في كتابه مروج الذهب بأنه حكاء في غاية الحذق ،يضحك الثكلى ،وغيرهم كثر…. أما في الأدب فلمع نجم أسماء عديدة على رأسهم الجاحظ والأصمعي وأبو حيان التوحيدي وأبو نواس وبشار بن برد وأبو العيناء إلخ…
كما انخرط عدد كبير من العلماء والفقهاء في عالم الفكاهة والتندر بتأليف عدة كتب منهم :
*ابن الجوزي صاحب كتب “الأذكياء” و “أخبار الحمقى والمغفلين” و “أخبار الظراف والمتماجنين”.
*والخطيب البغدادي صاحب كتاب “التطفيل وحكايات الطفيليين”.
*والحصري القيرواني وكتابه” جمع الجواهر في الملح والنوادر”
*والثعالبي الذي ألف كتاب “يتيمة الدهر”.
*وعقلاء المجانين “للنيسابوري”
*والأبشيهي وكتابه “المستطرف في كل فن مستظرف” واللائحة طويلة.

وكان الإقبال شديدا وفي تزايد على الظراف والمتفاكهين والمسامرين من قبل الخلفاء والسلاطين والأمراء وعلية القوم الذين كانوا يتنافسون على استقطاب أجودهم وأبرعهموأتقنهم صنعة وأبدعهم طرفة ونادرة، دون نسيان الفرجات الشعبية في الساحات العمومية التي كان ينشطها ظراف وفكاهيون وحكواتيونشعبيون لا تعوزهم الحرفية والصنعة هم كذلك ،والتي كان الإقبال عليها مكثفا ومنتظما بعد صلاة عصركل يوم على وجه التحديد.
وشجع الفقهاء والعلماء وبعض الصحابة الإقبال على الضحك والاستفادة من فضائله ومزاياه وأطاييبه.
*فعن علي ابن أبي طالب قوله: “روحوا القلوب واطلبوا لها طرف الحكمة ،فإنها تمل كما تمل الأبدان”-3-.
*وروي عن النبي (ص) أنه قال:”إن الرجل يتكلم بالكلمة يضحك بها جلساءه،يهوى بها أبعد من الثريا”-4-.
*ويقول العالم والفقيه ابن الجوزي بخصوص موقف العلماء والفقهاء من الضحك:” وما زال العلماء والأفاضل تعجبهم الملح ويهشون لها ،لأنها تجم النفس،وتريح القلب من كد الفكر”-5-.
ووصف رجل من النساك عند عبيد الله ابن عائشة فقالوا:”هو جد كله،فقال: لقد أضاق على نفسه المرعى وقصر طول النهى،ولو فككها بالانتقال من حال إلى حال،لتنفس عنها ضيق العقدة”-6-.
بيد أن هذا الترخيص بالإقبال على الضحك والتفكه مشروط من قبل الفقهاء بعدم الإكثار منه، حيث يقول بعضهم:” إنما يكره للرجل أن يجعل عادته إضحاك الناس لأن الضحك لا يذم قليله،فقد كان رسول الله (ص) يضحك حتى تبدو نواجده، إنما يكره كثيره….”، والارتياح إلى مثل هذه الأشياء في بعض الأوقات،كالملح في القدر كما يقول ابن الجوزي،الذي يعززه قول الخطيب البغدادي:”ولم تزل أفاضل الناس وأكابرهم تعجبهم الملح ويؤثرون سماعها ويهشون إلى المذاكرة بها لأنها جمام النفس ومستراح القلب،وإليها تصغي الأسماع عند المحادثة،وبها يكون الاستمتاع في المؤانسة”-7-.
ويضيف ابن الجوزي قائلا بخصوص أهمية الضحك والحاجة الملحة إليه:”إن النظر في الأمور والحكايات المضحكة المبهجة ،تطرد السآمة عن القلب والملالة عن النفس…والدأب والاستمرار في الجد يجعل النفس تمل وتسأم،أما بعض المباح في اللهو فيجعلها تنجلي وتشرق”-8-.
وموقف ابن الجوزي من الجد واللهو والعلاقة بينهما ،شبيه وقريب من موقف ونظرة الجاحظ وغيره من الأدباء والعلماء والنقاد العرب والمسلمين وحتى الأجانب خاصة المحدثين والمعاصرين منهم ،حيث يرى أن اللهو وسيلة للرجوع إلى الجد والكد بعد التخلص من التعب وتفريغ الشحنات الزائدة من الطاقة الانفعالية الكامنة في أعماق النفس البشرية ،وهو ما يؤكده في قوله:” ويكون مباح اللهو أمرا ضروريا للناس كافة والعلماء خاصة،هؤلاء جميعهم الذين تهيمن على حياتهم وأعمالهم روح الجد ،قد يصابون بالسأم،لذلك يكون هذا اللهو المباح،هدنة مؤقتة يعودون بعدها إلى أعمالهم،وكأنهم لم يتركوها قط-9-.
أما الجاحظ ،فلا يرى في اللهو وسيلة للجد بل هدفا في حد ذاته ،فالإنسان في نظره لا يعمل إلا من أجل أن يستريح،ولا يكد إلا من أجل أنيلهو،فالراحة غاية في حد ذاتها وجب تحقيقها بواسطة اللعب واللهو والضحك والمرح.

ويعد الجاحظ أرفع نموذج للأدب الساخر،توفر على أسلوب فكه ذكي بأفق تخييلي واسع،اعتمد الجدل التقليدي في كتاباته وإبداعاته ،حيث كان يدافع عن المتضادين في آن واحد ،كما امتلك ناصية اللغة في غناها وثرائها، وأدبه الفكاهي أدب عقلي يعتمد على الواقعية والمنطق في ترتيب وتنظيم الأفكار،كما أن خلفيته الثقافية وعمقه الفكري وسعة ثقافته،جعلته بارعا في التهكم والسخرية ،لمقدرته الفائقة على توليد المعاني ،إضافة إلى تفرده وتعمقه دون سواه في المعارف الاجتماعية وتفوقه على أقرانه في هذا الباب،الشيءالذي أكسب مادته الساخرة الغنى والثراء، أما الروح الفنية لديه،فهي حرة طليقة تأبى القيد،كما تميز بسماحة الكلام والاسترسال فيه ،وصفاء التعبير والدقائق الشعرية والمعاني الطريفة والبراعة في اصطناع الكلام-10-،والجرأة في السخرية من الغير وحتى من نفسه أحيانا إن اقتضى الأمر ذلك،حيث لم يكن يتضايق من جعل ذاته مادة للسخرية والتندر بالتفكه على ذمامة خلقته،أو بسط مواقف طريفة وقعت له ومقاسمته إياها مع الآخرين من أجل الضحك واللهو والاستمتاع بها،كحالة المرأة الحسناء التيمرت قربه وابتسمت له وقالت له: لي إليك حاجة ،فقال الجاحظ:وما حاجتك؟ قالت:أريد أن تذهب معي،قال: إلى أين؟ قالت: اتبعني دون سؤال،فتبعها الجاحظ إلى أن وصلا إلى دكان صائغ ،وهناك قالت المرأة للصائغ: مثل هذا وانصرفت،عنذئذ سأل الجاحظ الصائغ عن معنى ما قالت له المرأة ،فأجابه :أعذرني سيدي ،لقد أتتني المرأة بخاتم وطلبت مني أن أنقش عليه صورة شيطان، فقلت لها:ما رأيت شيطانا قط في حياتي،فأتت بك إلى هنا لظنها أنك تشبهه.
ويسجل قدامى العرب والمسلمين تقدم مواقفهم من الضحك والفكاهة ،والتشجيع على الإقبال عليها،باستثناء قلة قليلة منهم أساءت إلى تأويل النص الديني فسقطت في فخ تحريم الضحك والتحذير من الإقدام عليه لأسباب لا تصمد أمام الواقع والمنطق والعلم ،وهو نفس الموقف الذي يتقاسمه رواد الرومانسية تقريبا مع هؤلاء ،يقول رائد هذا الاتجاه “لامارتين”:” إن شعبا جادا لا يؤسس شعره على الهزل،ويركز على الجدية في الإنسان بقوله:” إن الإنسان لميخلق للضحك”،في تناقض تام مع العديد من المفكرين وعلماء النفس والفلاسفة الذين أقروا بأن الضحك ملكة إنسانية وحاجة ضرورية للنفس البشرية ،كما يقول الشاعر أبو الفتح البستي:
أفد طبعك المكد بالجد راحة يجم وعلله بشيء من المزاح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن بمقدار ما تعطى الطعام من الملح
وبقدر ما أقر العلماء والفقهاء والأدباء المسلمين بأهمية الضحك والمفاكهة ،بقدر ما حددوا كذلك جملة من الشروط الواجب توفرها في الظريف والمضحك والمسامر وأهمها فيما يأتي:
“فالحصري القيرواني” صاحب كتاب “جمع الجواهر في الملح والنوادر”أورد في كتابه :
*أن يكون خفيف الإشارة ،لطيف العبارة،ظريفا رشيقا،لبقا رفيقا غير ثقيل،لا عنيف ولا جهول،قد لبس لكل حالة لباسها،وركب لكل آلة أفراسها،ويعرف كيف يخرج مما يدخل فيه إذا خاف ألا يستحسن ما يأتيه،”كما ذكر عن الفتح ابن خاقان أنه كان مع الخليفة المتوكل، فرمى هذا الأخير عصفورا فأخطأه،فقال:أحسنت يا أمير المؤمنين،فنظر إليه المتوكل نظرة منكرة فقال الفتح ابن خاقان: إلى الطائر حتى سلم….”،ولا يجب على الظريف أن يكون كلما طال كلامه انحل نظامه،بل يأتي في آخر ما أحكمه،بما ينسي ما تقدمه….ويجب على اللبيب ألا يطيل فيمل ولا يقصر فيخل،فللكلام غاية،ولنشاط السامعين نهاية-11-.والظرف( بتسكين الراء) عند ابن الجوزي،يكون في صباحة الوجه ورشاقة القد ونظافة الجسم والثوب وبلاغة اللسان وعذوبة المنطق وطيب الرائحة والتقزز من الأقذار والأفعال المستهجنة،ويكون في ملاحة الفكاهة والمزاح وفي الكرم والجود وغير ذلك من الخصال اللطيفة-12-.

كانت هذه بعض الشروط من أخرى عديدة تفرضها المجتمعات الإسلامية في العصور الوسطى للحصول على فرجات فكاهية، تمتع وتسر وتنتشي بها النفس وينتفع بها الفكر ،فرجات قادرة على الرقي بالذوق وضمان اللذة والمتعة في أبهى صورها ،كما أن الظراف والمسامرين والمضحكين كانوا مواكبين من قبل المفكرين والعلماء والفقهاء الذين يمدونهم بالقواعد التقنية لإنتاج وصناعة الفرجة المقبولة القادرة على نيل الاستحسان، ويرسمون لهم طريق الإبداع السليمة ويقومون أعمالهم ويصححونها ،إلى جانب الصرامة في تحديد معايير المضحك والقبول به، خاصة في مجالس الخلفاء والسلاطين وعلية القوم ،كسعة الثقافة وشموليتها والمهارة والذكاء والفطنة واللباقة واعتماد المنطق في منطوقه وحكيه مع تجنب الاستثقال، يعني ألا يكون ثقيلا على المستمعين والمتتبعين بسماجته ،والذين لم يكونوا أبدا متساهلين مع ممارسي الهزل الفج والتهريج والاستثقال و المستثقلين ،حيث كانوا يسخرون منهم ويقاطعونهم وينبذونهم، لأن حضرة الثقلاء تبعث على السأم كما قال الشاعر الأعمش:
وما الفيل تحمله ميتا بأثقل من جلاسنا
وقيل لجالينوس:لم الرجل الثقيل أثقل من الحمل الثقيل؟ فقال: لأن الرجل الثقيل إنما ثقله على القلب دون الجوارح،والحمل الثقيل يستعين فيه المرء بالجوارح-13-.
وقال سهل بن هارون: من ثقل عليك بنفسه وغمك بسؤاله،فأعرهأذنا صماء وعينا عمياء-14-،وكان بعض الظرفاء إذا رأى ثقيلا قال: قد جاءكم الجبل،فإذا جلس بينهم قال: قد وقع عليكم الجبل،فكم من جبال قدمت إلينا دون استئذان في عصرنا هذا وأطلت علينا عبر شاشة التلفاز أو من على خشبات المسارح ووقعت علينا بثقلها الثقيل وأذاقت نفوسنا شر العذاب بسماجتها وضحالة فكرها وضعف مخيلتها الفنية إلى درجة أنها تثير الرأفة والشفقة وهي تعيش وهم النجومية والفرادة والتفرد الإبداعي،علما أن أغراض الفكاهة لا تتوقف على الإضحاك والضحك فقط،بل تروم الإمتاع والمؤانسة والتقويم والتهذيب والإصلاح وإبراز الاختلالات الكامنة في المجتمع والنفوس،دون ذم أو طعن في الأعراض أو استهزاء بالآخرين.
فالفكاهي أو المبسط عليه أن يتصف بالدراية بعوالم الأدب ومتمكنا من تقنيات الحكي بمهارة ودراية وعارفا بالأمثال وحفاظا للشعر ،عذب المنطق بليغ اللسان وقوي الذهن ويركز اهتمامه على الشكل الساخر للأشياء، كي يساهم في تهذيب الذوق وتحسينه و يسمو بالفكاهة إلى المستوى الفني والفكري والجمالي المنشود .

ولتجاوز الاستثقال ،بغية حصول الاستحسان والاستملاح،يقترح”الحصري القيرواني” في كتابه السالف ذكره ،التدرج في الحكي ،والانتقال من حال إلى حال…إلى أن تندرج الحكاية في الحكايات،ويتسلسل البيت مع الأبيات ،فيكون الجمع أزين من القطع،والتوصيل أحسن من التفصيل-15-،وكأني هنا “بالحصري” الذي توفي أواخر القرن الخامس الهجري،(488 ه 1095 م)، يتكلم عن قواعد الكتابة الدرامية وخاصة الحبكة التي هي عملية هندسية تروم تنظيم الأفكار وترتيبها في تسلسل منطقي مبني على قانون السبب والنتيجة ،أي أن كل حدث ينتج عن سبب معقول ومنطقي وهو بذاته يصبح سببا في ظهور حدث أو أحداث أخرى في تواشج واتصال وعلاقة جدلية، بعيدا عن الانفصال والتفكك في الأفكار التي لا يحكمها منطق،مع توظيف الانتقالات والتحولات من حالات إلى أخرى في سياقاتها المختلفة حسب ما تقتضيه المواقف الدرامية.
أحدعروض المضحك والمبسط “حربة” بفاس الحكواتي محمد باريز من مراكش
ويستطرد الحصري قائلا: “….فقد جعلت ما عملت مدبجا مدرجا لتلتذ النفس بالانتقال من حال إلى حال،فقد جبلت على محبة التحول وطبعت على اختيار التنقل-16-،ومرة أخرى يفاجئنا “الحصري” هو المبدع والشاعر الضرير الذي حرم من نعمة البصر، باهتمامه بالمتلقي وإسعاده وإمتاعه وجعله يستلذ ما يقدمه له من طرف ونوادر وحكايات ممتعة في كتبه،وكأنه أدرك منذ حوالي عشرة قرون مضت، العلاقة القائمة بين الضحك وبعض العمليات السيكولوجية والانفعالية (من قبيل اللذة)،لذة الضحك التي يحصل عليها المتلقي أثناء استهلاكه أطباق التفكه والتندر المتنوعة والمشوقة والمثيرة.
فما موقف علم النفس ونظريات التحليل النفسي من الضحك؟
2/ علم النفس ونظريات التحليل النفسي والضحك
اعتنى علم النفس منذ نشأته بموضوع الضحك،وأفرد له علماء النفس العديد من الدراسات والأبحاث التي اختلفت في خلاصاتها ونتائجها أحيانا،رغم إجماعها على منافعه ومزاياه التي لم تكن بخافية عن قدامى المفكرين والفلاسفة من عرب وعجم.
فهذا أبو حيان التوحيدي ( 310/414 ه 922/1023م ) يؤكد على الوظيفة النفسية للضحك في كتابه “البصائر والدخائر” قائلا: “إياك أن تعاف سماع هذه الأشياء المضروبة بالهزل ،الجارية على السخف،فإنك لو أضربت عنها جملة لنقص فهمك وتبلد طبعك،واجعل الاسترسال بها ذريعة لإحماضك،والانبساط فيها سلما إلى جدك،فإنك ما لم تذق نفسك فرح الهزل،كربها غم الجد…فتكون بذلك مسيئا لها”-16-،ويقول الجاحظ: “إن موقع الضحك من السرور عظيما ومن مصلحة الطباع كبيرا ،وهو شيء من أصل الطباع وفي أساس التركيب-17-.
فمن خلال قطبي الفكاهة العربية الإسلامية،أبو حيان التوحيدي والجاحظ،يبدو أن عملية التجسير بين الفكاهة والضحك من جهة،وبعض العمليات السيكولوجية العقلية والانفعالية من جهة أخرى،كانت قائمة وإن بطريقة غير معلنة،باعتبار أن تلك العلاقة لم تنشأ بطريقة علمية إلا مع أواخر القرن التاسع عشروبداية القرن العشرين ،خاصة بعد ظهور وتطور نظريات التحليل النفسي،واهتمام علم النفس بهذا الموضوع الذي خصه بعدة نظريات لعلماء نفس كبار أمثال:
أ/أكسندر بين (1818/1903)
وهو عالم نفس إسكتلندي ،يرى أن الضحك هو نوع من القوة،مدرجا إياه ضمن انفعال القوة ،وأن أسبابه تعود إلى ذلك الشعور بالانتصار على عدو ما،أو النجاح في مهمة شاقة،إذ تصدر عن الإنسان عقب ذلك انفجارات تشنجية من الضحك،وهنا يكون هذا الأخير وثيق الصلة باللذة،التي يحققها الفوز أو النصر، فيكون بذلك الضحك علامة على النصر-18-.
ب/ جيمس سيلي(1842/1923)
اهتم هذا العالم البريطاني بسلوك اللعب عند الأطفال،فأسس نظرية حول علاقة الضحك باللعب ،سماها (نظرية مزاج اللعب حول الضحك)،إذ اعتقد أن الاستمتاع بالضحك توجد جذوره في تلك الاستثارة المفاجئة للسلوك الخاص بمزاج اللعب ،كما أكد وجود سلسلة متدرجة من النمو في سلوك الضحك تمتد من الابتسامة إلى الضحكة،وأن الضحكة في حقيقة الأمر هي ابتسامة قد نمت وتطورت-19-،وهو الموقف الذي يتطابق نسبيا مع موقف ورأي فقيه اللغة العربية محمد ابن اسماعيل الثعالبي المتوفى سنة 430ه بخصوص الضحكة والابتسامة،إذ يقول: “التبسم أول مراتب الضحك ثم الإهلاس وهو إخفاؤه،ثم الافترار والانكلال وهما الضحك الحسن،ثم التكتكة أشد منها ،ثم القهقهة والقرقرة وهما الضحك العالي والكركرة وهي الضحك الشديد،ثم الاستغراب وهو المبالغة في الضحك-20-.
والضحك لدى “جيمس سيلي”هو تعبير عن المتعة،والوظيفة السيكولوجية الأساسية للضحك هي التعبير عن اللذة وتعزيز لها-21-،وهنا نسجل تقاطعا آخرا إلى حد التطابق مع صاحب “جمع الجواهر في الملح والنوادر” (الحصري القيرواني الضرير)فيما يتعلق بالضحك إذ يقول:” فقد جعلت ما عملت مدبجا مدرجا لتلتذ النفس بالانتقال من حال إلى حال”.
ج/ ويختلف عالم النفس البريطاني “ويليام ماكدول” (1871/1938) عن زملائه فيما يتعلق بارتباط الضحك باللذة وكونه تعبير عنها،إذ في رأيه إن كل المواقف المثيرة للضحك هي مواقف غير سارة…لذلك فنظريته تتعارض مع مثيلاتها التي اعتبرت الضحك تعبيرا عن البهجة والسرورأو دليلا عليهما،بل هو مولد لهما،وسوء الفهم الكبير في هذه المسألة في نظره نابع من المساواة بين الابتسامة والضحك ،في الوقت الذي وجب التمييز بينهما،فالابتسامة فقط هي علامة المتعة والسرور،أما الضحك في نظره فله وظائف فيسيولوجية مختلفة مثل تنشيط الدورة الدموية،وتنظيم عملية التنفس وزيادة تدفق الدم إلى المخ إلخ…..إلى جانب الوظائف النفسية المتمثلة في تحقيق الشعور بالانتشاء من خلال إيقاف كل مواصلة في التفكير أو الاستمرارية فيه -22-
وفي الأخير نعرض لرأي رائد التحليل النفسي “سيجموند فرويد” (1857/1939) لنتعرف على موقف التحليل النفسي من الضحك والفكاهة، حيث يعتبر هذا المحلل النفسي النمساوي أن الفكاهة من أرقى الإنجازات النفسية للإنسان،وتصدر الفكاهة في نظره عن آلية نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات،وتقوم هذه الآلية على أساس تحويل حالة الضيق ،أو عدم الشعور بالمتعة إلى حالة من الشعور الخاص بالمتعة واللذة.
سيجموند فرويد
وعموما ،فإن متعة الفكاهة عند “فرويد” ،تنتج عن ذلك التوفير في الطاقة التي سيتم إنفاقها في الانفعالات بشكل عام،يعني التخلص من الانفعالات السلبية مثل الخوف والحزن وغيرهما…..من هنا تنشأ الفكاهة ومتعها،ويتحقق التنفيس أو التفريغ للانفعالات.-23-.
يتضح مما سلف ،أن الضحك جزء من السلوك الإنساني،وهو رد فعل فيسيولوجي ضد التعرض لموقف مؤلم أم هزلي أو سماع نكتة إلخ…وهو حاجة ضرورية للنفس البشرية،من تم وجب الإقبال عليه،والاغتراف من موائده المختلفة والمتنوعة،ذلك أنه بعد تأكيد الحاجة إليه علميا عبر دراسات علماء النفس ونظريات التحليل النفسي ،أصبحت تعقد مؤتمرات عالمية تعنى بالفكاهة والضحك ، كان أولها سنة 1976 في “ويلز”،كما ظهرت مجلة الفكاهة العلمية سنة 1987،وتلتها مجلات أخرى في أقطارعديدة، كما أصبح للفكاهة مهرجانات وملتقيات عالمية ووطنية ومحلية،كان أولها في الوطن العربي سنة 2002 في لبنان،لتتناسل عديد المهرجانات وتتكاثر في الوطن العربي والعالم ومعه ظهرت وجوه كوميدية عديدة تختلف فيما بينها وتتفاوت على مستوى الإبداع الفني والإقناع الفكري والجمالي ،رغم تسيد الفكاهيين غير المقنعين مشهد الكوميديا عالميا وعربيا ومحليا.
حميد تشيش
الهوامــــــــــــــــــش :
1/ أبو عثمان عمر ابن بحر لجاحظ: البخلاء ،تحقيق طه الحاجري، مطابع دار المعارف المصرية السنة 1990،الصفحة: 6.
2/كلين ويلسون: سيكولوجية فنون الأداء، سلسلة عالم المعرفة ،العدد 258 السنة 2000 ص: 239.
3/أبو الفرج عبد الرحمان ابن الجوزي: أخبار الحمقى والمغفلين ص :3 .
4/أبو الفرج عبد الرحمان ابن الجوزي: المصدر السابق ص:2.
5/ أبو الفرج عبد الرحمان ابن الجوزي: المصدر السابق ص: 2.
6/ أبو الفرج عبد الرحمان ابن الجوزي: المصدر السابق ص: 2.
7/ الخطيب البغدادي: التطفيل وحكايات الطفيليين وأخبارهم ونوادر افعالهم واشعارهم ،جمع وتحقيق:بسام عبد الوهاب الجابي ص:45 .
8/ أبو الفرج عبد الرحمان ابن الجوزي: المرجع السابق ص:2.
9/ أبو الفرج عبد الرحمان ابن الجوزي: المرجع السابق ص:2.
10/ أبو عثمان عمر ابن بحر لجاحظ: المرجع السابق،مقدمة المحقق ص:19.
11/ الحصري القيرواني: جمع الجواهر في الملح والنوادر ص: 7 و 8 و9من النسخة غير المحققة.
12/ أبو الفرج عبد الرحمان ابن الجوزي: أخبار الظراف والمتماجنين،تحقيق بسام عبد الوهاب الجابي،دار ابن حزم للطباعة والنشر ،الطبعة الأولى، السنة 1997 ،ص: 42.
13/ ابن عبد ربه: العقد الفريد ،المجلد الأول ، الطبعة الثالثة، شرح وضبط:إبراهيمالأبياري وأحمد أمين وأحمد الزين ص:226 .
14/ابن عبد ربه: المرجع السابق، ص:226.
15/ الحصري القيرواني: المرجع السابق، ص: 6.
16/ الحصري القيرواني: المرجع السابق، ص: 6.
17/شاكر عبد المجيد: الفكاهة والضحك، سلسلة عالم المعرفة، العدد 289 ،السنة 2003، ص: 122.
18/شاكر عبد المجيد:المرجع السابق، ص: 123.
19/ محمد ابن إسماعيل الثعالبي: فقه اللغة وأسرار العربية ،ضبطوتعليق:الدكتور ياسين الأيوبي، المكتبة العصرية،صيدا بيروت ،الطبعة الثانية ،السنة 1420ه، ص: 150.
20/شاكر عبد المجيد: المرجع السابق ،ص:123.
21/شاكر عبد المجيد:المرجع السابق، ص:125.
22/شاكر عبد المجيد: المرجع السابق، ص: 129.