الثلاثاء , 19 مارس 2024
الرئيسية » فنون » أهل الفن » حميد اتباتو : محمد الكريمي « صدق الفكاهة الشعبية »

حميد اتباتو : محمد الكريمي « صدق الفكاهة الشعبية »

نكتب اليوم، وقد كتب الكثيرون إثر حدث موت غادر لفنان أصيل هو محمد الكريمي الذي أغنى الفكاهة الشعبية بصيغ بهية تنتسب لنا ولأرضنا . فكاهة صاعدة من أعماق الأرض، وموقعة بنبض الهوامش، وجراح أهل الأحياء و البلدات السفلى. لا نكتب اليوم لنضيف لإسهام الراحل شيئا ما، كما لا نكتب لنبجل، أو نمجد الراحل ليس لكونه لا يستحق ذلك، فهو يستحق أكثر، بل لأنه يستحق ما ليس في مقدورنا أن نمنحه إياه وهو الرسوخ في الذاكرة والوجدان حيا وميتا، وهذه مهمة قام بها هو نفسه بشكل لافت ومتميز من خلال ما قدمه لإغناء خط الفكاهة الشعبية، واستدعاء الحاجة إليها كما في شكلها الأصيل عند روادها الكبار سواء انتسبوا للإبداع الشعبي ممثلا في فن الحلقة، والفرجات الشعبية، أو جاؤوا من المسرح الشعبي الأصيل كما جسدته الأسماء الكبيرة في مسرح الهواة، ومسرح المحترفين الأوائل.
ما راكمه الكريمي هو امتداد للتراكم الذي أبدعه كبار فن الحلقة الذين عرفتهم ساحات المدن وفضاءات الأسواق، والحفلات الشعبية بالمغرب أمثال خليفة، وباقشيش، وقشبال وزروال، وقرزز ومحراش، ولهناوات، ولحسن أزيي، وتخرشيش، وحربة، والعيش خلوق، وعيشة بطيط ، و سيدي الحسين ، و شار جان التهامي ، و نعينيعة و العلوي المداح، وكوميرا وغيرهم.
تتأسس فرجة الكريمي كما كل رجالات الحلقة على عناصر التمسرح المألوفة من ملابس، وتعبيرات جسدية، وغناء، وإنشاد، وأكسيسوار ، ومحكيات، وقفشات، ومستملحات، وشكل من النقد الساخر لوقائع الحياة والوجود، والسخرية من بؤس الواقع، ومظاهر الجشع، والكبت الجنسي، والعلاقات الاجتماعية، والفهم البئيس للتدين، وقصص الواقع، ووقائع الخيال، والفكاهة نفسها، والانتقال السلس من الغناء إلى الحكي، ومن التشخيص إلى الارتجال، ومن مخاطبة الجمهور إلى السخرية من وضع ما، وانتقاء ما يثير ويأسر من حياة الناس والتركيز عل تفاصيل من المعيش أو التراث، او الثقافة ،أو تخيلها لتشكيل مادة فكاهته الشعبية … يمزج الكريميبشكل أنيق بين ما أعده من حكايات، ووقائع مضحكة وساخرة، وبين ما تسمح به اللحظة ، والجمهور، وعناصر المحيط من ارتجالات قوية. ما صنع احترافية وجاذبية وجمالية فرجة الكريمي أكثر هو التصاقها بهموم الواقع، وجراحات الناس، وعنف الوجود والحياة، أكثر من هذا امتلك الكريمي القدرة على التقاط عناصر من مسار حياته الخاصة لصبغ منطوق حلقته بملامح واقعية وحميمية. ينضاف إلى ذلك شكل استثماره للأكسيسوارات، وآلة الوتر والناي، والعصا، والملابس، والتوظيف الخلاق لحركات الوجه، والتفاعل الساحر مع ما يدور في محيط الحلقة أو الحفل.
شكل نتاج الكريمي فرجة تراثية أصيلة تجمع بين عناصر الحلقة المعروفة، وبين ما يعد مظاهر فرجوية حديثة خاصة بعد أن أصبح الكريمي وجها مألوفا في مواقع التواصل الاجتماعي، وبعد أن انتبهت بعض الأسماء الفنية لقيمة تجربته، وسعت إلى توثيقها كما كان الأمر مع إنتاج الفنان ميلود العرباوي لعمل رقمي له سمح بجعل اسم الكريمي معروفا ورائجا إلى جانب باقي منتوجات شركة العرباوي فون الشعبية والمسؤول عنها الذي كثيرا ما استحضره لكريمي بالكثير من التقدير، وغنى له بشكل مؤثر وبصيغته الخاصة مقاطع من أغنية لميمة أو علاش تبكي يا لمغرب. بروز الكريمي من داخل مواقع التواصل الاجتماعي، وتسويق عمل له من طرف شركة إنتاج فنية عرَّفت جمهورا واسعا عليه لينضاف للجمهور الذي ألف وجهه بمناطق الصويرة، ومراكش، والشياظمة وغيرها، كما سمح ذلك بالتفكير في دعوته لمهرجانات الفكاهة، ولقاءات و حفلات عديدة بالكثير من مناطق المغرب. هكذا صار اسم الكريمي علامة ممتازة للحلقة ، وممثلا أصيلا لها، يزاوج في تقديم فرجتها بين النقد اللاذع، والسخرية المفتوحة، واللغة غير المحتشمة، حين يكون في تربته الأصلية أي داخل حلقة الفضاءات الشعبية، وبين التفكه، والنقد الاجتماعي، وانتقاء كلماته حين يكون مدعوا لإحياء حفلات ولقاءات سواء لوحده، أو مع فنانين آخرين.
شيء هام يحسب للكريمي، هو من خصال أصلاء فن الحلقة، ونعني به تعاونه في بعض المناسبات مع فنانين آخرين تجميعا للجهد، ورغبة في تقاسم عطاء الجمهور خاصة حين يتعلق الأمر بفضاء السوق أو أماكن تقديم الفرجة من طرف محترفين كثر. إنه ما يعكس ثقافة التعاون، والتآزر بين كبار رجال الحلقة، وتجنب النزوع الذاتي ، والانتفاع الخاص خاصة بالنسبة للاسم الذي يكون معروفا أكثر، أو له جمهوره الواسع كما الحال بالنسبة للكريمي .ما يحسب له أيضا هو أنه ألزمنا بالحديث عن الحلقة من خلال نماذج محددة لها، وليس بشكل عام وعابر كما نفعل حين نستحضرها لتبرير وجود ما يماثل المسرح في ثقافتنا الخاصة. وجد جمهور واسع في فرجة الكريمي ما يفي بغرض الترفيه الحق، والضحك، والبسط المريح، وما يخفف من ضغط اليومي والوجود، بل لقد عوضت عفوية الكريمي وأمثاله، وصدق فرجته جمهور الفكاهة عن ما افتقده في الكثير من الإنتاجات النمطية التي تقدمها القنوات التلفزية المغربية، وفي ما لا يحصى من أعمال درامية مغربية أنتجت بأموال كبيرة وكانت نتيجتها في الدرجة الصفر للفرجة، والإبداع، وإمتاع الناس.
لا نقول بهذا إن ما قدمه الكريمي كان شيئا خارقا، أو غير مألوف نهائيا في فن الحلقة، بل نقول إن لكريمي في ما قدمه، كان خلاقا من حيث عفويته، وبلاغته، وسخريته، وقدرته على إضحاك الناس، وتملكه الكبير لعناصر الارتجال، واستثمار التعبير الجسدي، والملابس، والأكسسوار، والشخيص، ودقة التقمص، وصناعة الحضور القوي للذات سواء في الحلقة ومع ناسها، أو في اللقاءات والحفلات و التظاهرات وجمهورها الواسع. بهذا تصير حلقة لكريمي وأمثاله من كبار هذا الفن، ليس شكلا ما قبل مسرحي بكامل البهاء فقط، بل مسرحا حقيقيا، والمسرح المبحوث عنه المطبوع بالعفوية، والصدق، و بلاغة الإبداع، و الانفتاح الواسع على حياة الهوامش والمقهورين من المنتسبين إليها.
يفد جمهور الكريمي على فرجته لما يمتع ويريح فيها، ولما يضحك بلا حدود، بل وما ينتقم للبسطاء من عنف الحياة، وما يسخر منها بشكل كاريكاتوري، لهذا تابع بشغف وكثافة ما نشر من مقاطع مما قدمه في مواقع التواصل الاجتماعي، ورغم رداءة الصوت والصورة في أغلبها، فقط استطاعت تحقيق أرقام مشاهدات فعلية كبيرة. إنه ما يؤكده أيضا الاهتمام الواسع بحالته الصحية، وبخبر موته، ثم بتقديم التعازي، ونشر تدوينات حوله، ومقاطع كثيرة من حلقته. لقد عكس كل هذا تقديرا خاصا للراحل، وصيغة نبيلة من جمهوره لتكريمه. إنه ترجمة جميلة وصادقة لاعتراف البسطاء بذاتهم الخاصة وبمن( وما ) يمثلها، وبمن يصنع لحظات فرحهم ومرحهم، بل إنه صيغة هؤلاء لتكريم انتسابهم وثقافتهم. لقد كابر الكريمي من أجل استمرارية فن الحلقة في وقت فاض فيه “روتيني اليومي”، وأخبار الفضائح، والتلصص على الحياة الحميمية للناس، وتعمم بشكل قبيح ما تفرضه كلاب الحراسة المعنية بغرس الخواء ونشره محليا في الواقع و الأنترنيت، وما تلزمنا به ثقافة الإعلان، وقداسات التفاهة. لقد فرض الكريمي نفسه وفنه على الرغم من تقلص حضور فرجات التراث في حياتنا، وانحباس أوجه عديدة للثقافة الشعبية ، وتراجع الاهتمام بما هو أصيل، وما يمتع، أو يسخر، أو يحمل قيمة ما، سواء كان مكتوبا أو شفويا، وفي هذا تبرز إبداعية لكريمي وتفرده في فنه الفكاهي الشعبي. لقد أدرك الكريمي أن هذا الفن قد يساء إليه بعد رحيله، لكونه أحس أنه من آخر كبار فن الحلقة، وأحد القلائل ممن يمثلون فكاهة الشعب العفوية، وأنه من الرواد القلائل الذين يعتبرون “ماركة مسجلة ” في هذا الفن السائر بثبات نحو حتفه، بسبب رحيل رجالاته، وتضخم معاناتهم الصحية والمادية. ما نكتبه جميعا اليوم على إثر وفاة الفنان الكريمي لا قيمة له من موقع الراحل، و من موقع أهله لكن ما يشفع لمشروعيته هو كونه يواسينا في محنة المتابعة المأساوية لاندثار عوالم كاملة تعنينا، وانطفاء زخم وجود عشنا فيه وبه ومن خلاله. وجود قد لا يعني كثيرا للأجيال الجديدة لكنه جوهر ما تعرفت به هوية الثقافة والحياة كما ارتبطنا بها، ومثلتنا نحن جيل الخاسرين الذين يستعدون لوداع الوجود ماديا ورمزيا بعد أن غربت عنه العلامات الكبرى التي تم تمثيله من خلالها ومن بينها فن الحلقة، والفن الشعبي، وإبداع البسطاء ورجالاته
لكبار ومنهم فنان الفكاهة الشعبية الراحل الكريمي. مهم جدا أن نستحضر إسهام و إنتاج أسماء أو تجارب نوعية ذات قيمة ما في مجالها في بعض اللحظات الخاصة من قبل لحظات الموت والفقدان بالكتابة عن ما يرتبط بها، ومشاركة ما له علاقة بها، لكن الأهم هو أن نستحضر بسطاء المبدعين ومن لا صوت لهم، ومن يعتبرون في رأي النخبة المتعالية والبئيسة خارج اهتماماتها، ومن لا يفكر الإعلام الرسمي في استدعائهم لتعريف الناس على ما يقدمونه، بل ما يعد حاجة استعجالية دائمة هو استثمار مثل هذه المناسبات لتذكير من يتحملون مسؤولية الشأن المحلي والوطني و الجهوي بأن الاهتمام بالإبداع الشعبي، وأجناسه، ورجالاته، وتوثيق ذاكرته من صميم ما يعتبر ضرورة ثقافية الآن ودائما، ولنقول لهم كفوا عن اعتبار استحضار التراث اللامادي بصيغة شعار للاستهلاك ليس إلا، فبهذا تبددون ما تبقى منه، وتحاصرون من يستمر في خدمته، وعسى أن تدركوا أن أن العناية برجالات الحلقة و الفرجات الشعبية، وصيانة كرامتهم في الحياة، و حماية الفضاءات التاريخية لتداول هذه الفنون من صميم ما ينزِّل واقعيا وفعليا شعار الاهتمام بالتراث اللامادي، وليرحم الله الراحل محمد لكريمي الذي حمى الفكاهة الشعبية العفوية، وحافظ على استمراريتها بكل صدق داخل الحلقة وخارجها.
حميد اتباتو

شاهد أيضاً

“أولاد يزة” لإبراهيم شكيري.. سلسلة غير مقنعة شكلا ومضمونا

منذ حلقتها الأولى يظهر أن السلسلة الكوميدية “أولاد يزة” لا تحمل من الكوميديا سوى الإسم.. …