روما : محمد صقلي
والذات ليست بمعنى الوعي الذاتي. بل القصد بها هو ذات الفرد بمقوماتها و درجة تكوينها ومدى تفاعلها سلبا و إيجابا مع ما يحيط بها من مؤثرات.
الطيب الصديقي من طينة و خيرة المبدعين الذين سيحتفظ التاريخ و ذاكرة الأجيال بآثارهم.بما لتجربة عمرت أزيد من نصف قرن من مسار الرجل إبداعا بتجليات عديدة سواء على مستوى الكتابة و كذلك اعتماد التجريبية في الإخراج و متعلقاته السينوغرافية.
شخصية الطيب الصديقي و منجزه الفني و الثقافي. مدخل ينفتح على آفاق عديدة مختلفة بقدر ماهي شاسعة و مشرقة.
احتفظ لنا التاريخ بأسماء و كشوفات من يعتبرون آباء الحضارة المعاصرة بمن فيهم فلاسفة و علماء و مفكرون و إعلام الثقافة و الفنون. لكن مع فارق قد يفوت كثيرين وهو أن هناك من هذه الفئة من تبقى أفكارهم و كشوفاتهم حاضرة مستمرة و تبقى الإنسانية بحاجة إليها و مدينة لها.
مقابل ذلك فئة انحصر تأثيرها فقط في زمانها أن لم نقل صارت متجاوزة.
اما موقع المبدع الكبير الطيب الصديقي فيضعه في صلب الفئة الأولى التي يبقى لها حضور و تأثير عبر تعاقب الأجيال.
من هذا المنظور لم يكن الرجل مجرد مرحلة عابرة و إنما التجربة في عمقها و تمثلاتها كانت صادرة عن رؤيا شاملة و عميقة يعززها شغف الطموح و شغب المساءلة.
هناك في مساره وسيرته ما يدعو للتأمل و استقراء الطابع الشخصي أو الشخصاني في سلوكه و طريقة تفكيره في مختلف المواقف في الحياة العامة رغم ما يراه البعض بنوع من التسطيح او النظرة الساذجة بكونه غطرسة او استعلاء.
وأذا كان من قبل المعاد محاولة الغوص في عمق تجربة بهذه الخصائص من الغنى و التنوع او التحليق في فضاءاتها و سواحلها الخصيبة العجيبة.
فالوعي بالذات عند الطيب الصديقي من حيث وجودها الفعلي في ظرفية زمنكانية محاطة بالتعثر و التخبط و الإحباط و ما شكل بنية وجدانها العام من تطلعات و آمال.
هاجس الإسهام في تشكيل هذا الوعي مع الحرص على ضبط توجهاته ربما يشكل بنوع ما نقطة الارتكاز في التجربة ككل او هو الخيط الرابط بين ما هو شخصي و ما هو مهني اذا جاز اعتبار أب الفنون مهنة.
في هذا السياق هل بالإمكان اعتباره استثناءا بين رجالات المسرح بالمغرب و إلى حدما المنطقة العربية.
طبعا بعد المرحلة التكوينية في فرنسا و فرقة المعمورة خاصة مرحلة النصوص الكلاسيكية ما بين موليير و شكسبير و ما تمخض عنها من مقابسات و إرهاصات الكتابة.
بدأ مسار التفرد بنقلة نوعية تمثلت في جرأة التعامل مع مسرح العبث السائد يومئذ في فرنسا و هو ما لفت الانتباه و بشر بميلاد رائد مغاربيا و عربيا بما تحقق لهذه الاعمال من شهرة و تأثير بما يعني المواكبة لآخر صيحات المسرح العالمي.
و لعل هذا التوجه المبكر هو ما جعل الطيب الصديقي في الصدارة و شرع في الاهتمام بتجاربه و إنجازاته من قبل الجمهور و المثقفين و الصحافة و النخب. وهنا بدأت أصداء مسرحه تتردد في الشرق العربي.
اهتمام الجامعيين و الطلبة بمسرح الطيب الصديقى صار جزءا من اهتمامهم برموز نضالية طبعت المرحلة مثل شي غيفارا و فرانز فانون كما دجون بيز و بوب ديلان. و غيرهم.
انعطاف آخر جديد و غير مسبوق جسده الطيب الصديقي من خلال النبش و التنقيب في الموروث الثقافي بشقيه المحكي او المكتوب محليا و عربيا.
شغفه بمقومات الذات من حيث هي حوصلة معارف و مدارك هو ما جعله يفيد من نصوص و أدبيات الملحون تأسيسا على التجارب الرائعة و النوعية للمرحوم عبد السلام الشرايبي من خلال مسرحيتي الحراز و سيدي قدور العلمي. ليتوج هذا التوجه باستلهام التراث الشفوي بالسيرة الذاتية لسيدي عبد الرحمان المجذوب.
بإمكاننا هنا محاولة الربط بين ثلاث مراحل. التكوين بفرنسا وفرقة المعمورة. مرحلة مسرح العبث ببعدها العالمي ثم مرحلة الاعتكاف على كنور التراث الشفوي محليا. اما الشق الآخر فيتمثل في رسالة الغفران للمعري و الإمتاع و المؤانسة للتوحيدي. مرورا بالروائع التي توالت عقب هذه الإنجازات.
و بناء على ما سبق و بخاصة التدليل على أن الطيب الصديقي كان له تأثيره المباشر على كافة من اشتغل في ورشاته او على الجمهور بشكل عام بل تجاوز هذا التأثير بأن تحول الرجل إلى ايقونية حية تجاوز إشعاعها الفكري فضاء المسرح ليكتسح فئات عريضة في المجتمع. و ذلك بكل ما يمثله سواء في مسرحه كما في أفكاره على العموم و أيضا بتجليات النبوغ و الكاريزما في شخصه و تصرفاته.
و ليست ظاهرة الغيوان وجيلالة و سوى أحد تجليات ما سميته في هذا المقال شغف تجذير الوعي بالذات والذي طبع مسار مبدع كبير يمتد بظلاله لأمد بعيد على طبيعة الاشتغال على ثيمة المسرح بالمغرب.