بروكسيل- كنزة بوعافية
السبت. العاشر من مارس 2018. الربيع يقبل مبكّرا في العاصمة البلجيكية بروكسيل.. ومع أشعة الشمس الدافئة، كان ثمة دفء آخر يغمر مبنى الاوديتريوم 2000Auditorium ، حيث تدور فعاليات الدورة الثالثة لمهرجان السلام.
جمهور غفير يتقاطر من مختلف الأماكن، وكلمات تتداول على المنصة، وموسيقى.. إنه السلام عندما يتردد صداه بين مختلف الأعراق والثقافات والديانات.. يجتمعون تحت سقف واحد لينشدوا بصوت عال: الحياة ممكنة معا!. فقط يكفي أن نقبل اختلافاتنا.
نحضر.. لأننا نؤمن بالفكرة.
كان الحماس يتقد من عيني السيدة Julie de Groote رئيسة البرلمان الفرنكفوني ببروكسيل، وهي تؤكد لي دعمها لهذا المهرجان منذ تأسيسه قبل ثلاث سنوات. ثم تضيف أن مهرجان السلام يستمد قوة الفكرة وحيوية النشاط من مديره ومؤسسه فريد الصمدي.. لذلك ، تقول السيدة جولي، نلاحظ كل هذا الفرح، والغبطة، وحب الحياة ، التي تغمر أجواء المهرجان.
لم يكن السيد خالد حاجي، كاتب عام المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة، أقل تحمسا للمهرجان، وهو يحدثني عن مشاركته للمرة الثانية في مهرجان السلام، داعيا إلى المزيد الدعم لهذا المشروع المميز، لأنه، كما يقول، يستأهل كل تقدير والاحترام.
وأنا أجول بين الحاضرين، الآتين من مختلف المشارب الفكرية والدينية، كان الارتياح باديا على الوجوه.. فبروكسيل، مثل عدد من المدن الأوروبية، شهدت خلال السنوات القليلة الماضية اعتداءات إرهابية، هزت نسيجها الاجتماعي.. وزرعت بذور الشك بين جالياتها المسلمة وفيرة العدد، وبقية الديانات والأعراق..
جاء مهرجان السلام ليتيح للمرة الثالثة فرصة لكل أولئك أن يجتمعوا معا، ويناقشوا مستقبل مدينتهم، ليتبين لهم في النهاية أن تلك الأسوار بينهم لا تعدو أن تكون بسيكولوجية، وأنها مجرد حواجز أقامها التطرف والتعصب، وغذّتها الدعاية المعادية للعرب والمسلمين بوجه عام.
من أكثر الوجوه ارتياحا كان بالطبع مؤسس مهرجان السلام فريد الصمدي، الشاب المغربي الأصل، البلجيكي الهوية ورئيس المعهد الاوروبي للحوار والتعايش السلمي. لقد كان الحضور المكثف للدورة الثالثة للمهرجان، أفضل مكافأة له، ولزملائه من القائمين على المهرجان.
وبكثير من الحماس والتفاؤل، تحدث إلي فريد الصمدي: “أنا سعيد لأن هذا المهرجان تمكن من أن يجمع كل هؤلاء المتنوعين جدا تحت سقف واحد.. إن فلسفة مهرجان السلام في الأصل هي أن يقوم بالخطوة الأولى نحو الاخر، ويتحدث إليه.. وعندما يأتيك هذا الاخر، ويجد عندك ما كان ينتظر ، فإنه سيهتم، وسيعود”. ثم يضيف فريد:”. أعتقد أننا نجحنا في ذلك.. ردود الفعل التي تصلنا تؤكد ذلك.. وتثلج قلوبنا”..
الألم.. والأمل
يدرك القائمون على مشروع مهرجان السلام أنهم يقدمون على تحد صعب.. فالجرح غائر، وآثاره ليس من السهل أن تندمل سريعا.. لذلك ربما، أصر المشرفون على المهرجان أن يقدموا أمثلة حية لما يمكن أن يفعل الإرهاب والتطرف، ليس بالآخرين فقط، بل بالمسلمين أولا..
هكذا، شدت الانتباه مشاركة السيد محمد بشيري، وهو بلجيكي من أصل مغربي، فقد زوجته في واحدة من تلك الاعتداءات الإرهابية في بروكسيل.. تحدث بشيري عن ألمه ، وتحدث عن كتابه الذي ألفه ليلقي الأضواء على تلك الأحداث، والأهم أن تؤخذ منها العبر.. قال لي إنه لم يتردد في قبول دعوة مهرجان السلام، فمثل هذه المنابر وحدها توفر فرصة لفتح النقاش العميق، والبحث عن حلول عملية، لأن التعايش المشترك هو قدر الجميع، وهو متاح وممكن، رغم أنف المتطرفين.
هذه الأفكار أكدها لنا أيضا السيد فؤاد أحيدار النائب الأول لرئيس برلمان بروكسيل.. ركز أحيدار على المشاكل التي يتعرض لها المسلمون في بلجيكا، وأوروبا عامة ، بعد العمليات الإرهابية التي عاشتها القارة خلال السنوات الماضية. وقال إن صورة المسلم لحقتها شوائب كثيرة، وهذا اليوم هو من أجل إصلاح تلك الصورة، ونحن نرحب بالجميع.. ونبين لهم أن العيش المشترك ممكن بين المسلمين وغير المسلمين..
قبل ذلك، كان جمهور الدورة الثالثة مشدودا إلى كلمة فؤاد أحيدار على منصة المهرجان.. لم تكن الكلمة مجاملة في شيء.. حددت المسؤوليات فيما جرى ويجري. حمّلت السياسيين مسؤولياتهم، واعتبرت أن الظرف الحالي دقيق، وأن لا خيار إلا للعيش المشترك، والعمل على ذلك بقوة ووضوح، ودون مواربة.. كما وجه أحيدار أصبع الاتهام إلى وسائل الإعلام، مشيرا إلى أنها تغيرت منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر ألفين وواحد في نيويورك.. وأصبحت تركز فقط على الأخبار المشؤومة والسيئة.. مشيرا إلى أن الخبر الجيد والمفرح لم يعد خبرا بالنسبة إلى وسائل الإعلام في هذا العصر، والتي تروج فقط لثقافة الموت والحروب.
هذا ما أكده لي أيضا الجامعي المغربي الأستاذ مصطفى المرابط، وهو أيضا مكلف بمهمة لدى مجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج، ملخصا مداخلته أمام الدورة الثالثة لمهرجان السلام بالقول: أريد أن أبين أنه إذا كان الاعتقاد السائد هو أن العلاقات البشرية تحكمها قاعدة هي الحرب، فإن الحقيقة أن السلم هو القاعدة التي يجب أن تسود بين بني البشر.
المغرب.. في القلوب
استمع الحاضرون ي الدورة الثالثة لمهرجان السلام إلى كلمات عدة، مختصرة، ومباشرة، وذات وقع وتأثير في الجمهور الذي كان متيقظا ومهتما وشديد الانتباه لكل ما يجري.. ولكن ذلك الجمهور استمتع أيضا بفعاليات موسيقية مختلفة، من مرجعيات ثقافية شرقا وغربا.. وكان من أهم ما قدم، عرض Frère Benjamin
سألته عن سبب حضوره، فأجاب ضاحكا: لقد عثر علي منظمو المهرجان على شبكة الانترنت. اتصلوا بي. شرحوا فكرة المهرجان. فقبلت على الفور. ثم يضيف: أعتقد أنني هنا لسببين: أولا، لأنني أجمع أطفالا يهودا ومسلمين ومسيحيين، وغير متدينين، ليغنوا للسلام في ضواحي باريس.. إنهم “أطفال الرحمة” .. لهم تجربة غنية، وأصدروا الكثير من الألبومات..
وثانيا، لأنني من جهتي أغني.. وأنا أيضا قس .. وأهتم خاصة بالأطفال من ذوي الظروف الصعبة..
أسأله عن علاقته بالمغرب بشكل عام فيجيب: ” لنا عدة مشاريع تربوية وتعليمية في القنيطرة في المغرب.. وأنا أدعم كل من يغني للسلام والتعايش السلمي”.
في جمهور الدورة، أوروبيون كثيرون من أصول مغربية تقاطروا على المهرجان.. معتزون بجذورهم المغربية، وعاقدون العزم على تقديم عونهم لبلدهم، كل من موقعه.
في الطيف الواسع من ضيوف الدورة الثالثة، كان هناك مشاركون أردوا استغلال الحضور المكثف والمتنوع في مهرجان السلام، ليعيدوا ربط صلاتهم ببلدهم الأم، المغرب.. ليس ذلك فقط، بل هم كانوا يريدون التعريف بخطوات عملية ينوون القيام بها قريبا للمساعدة في تحسين أوضاع بعض أبناء بلدهم.
أحد هؤلاء هو السيد إبراهيم الهادي، مسؤول منطقة شمال فرنسا، وممثل المنظمة الخيرية “النداء الإنساني”
HUMAN APPAEL
أكد لي أنه جاء لمهرجان السلام أساسا للتعريف بالمنظمة .. وأن المنظمة ستتحول الشهر المقبل إلى المغرب، وتحديدا في منطقة الأطلس، حيث ستطلق مشروع إعادة بناء مساكن تهدمت بسبب موجات الثلوج الأخيرة في المملكة المغربية.
حدثني أيضا السيد رياض حماني وهو فرنسي من أصول مغربية.. فنان، ويغني للسلام، والطفولة.. قال إنه يعتز بجذوره المغربية، وأن له قريبا مشاريع للغناء في المغرب، من أجل المواطنين المغاربة الذين تأثروا بموجة البرد الأخيرة.
عندما بدأ الليل يداهم بروكسيل، وبدأ الحفل ينفض، والجموع تغادر، كنت تستطيع أن تقرأ بوضوح لمحة حزن على الوجوه التي تمنّت أن يكون المهرجان لأكثر من يوم، فما زال هناك الكثير مما يمكن أن يقال، والكثير مما يستحق أن يحتفى به..
فالجهد من أجل السلام يحتاج بالفعل لأكثر من يوم في السنة.. وربما كان تصويب صورة المسلمين في أوروبا بحاجة إلى أكثر من تظاهرة ومهرجان، لكن من يوقد شمعة، أفضل ممن يكتفي بلعن الظلام..
فرغم أن مهرجان السلام ينظم ليوم واحد في السنة، ورغم أنه مازال في بداياته، إلا أنه أصبح معروفا، وفرض نفسه على أجندا الأحداث الثقافية والإنسانية لمدينة بروكسيل.. باعتباره تظاهرة شعارها الانتصار للقيم الإنسانية، وتوسيع آفاق التعايش السلمي بين الشعوب، وتعزيز المثل العليا للسلام.