يكاد النقاد السينمائيون المغاربة يتفقون على أن السينما المغربية تعيش أزمة خانقة تربض على صدرها وتمنعها من التنفس بشكل طبيعي ، لكنهم يختلفون في تحديد الأسباب الكامنة وراء هذه الأزمة . فهناك من يعتقد أن الأمر يعود بالدرجة الأولى إلى مشاكل في الإنتاج والتمويل ، وهناك من يرى أن المسألة تؤول في العمق إلى ضعف في القدرة على الخلق والإبداع . وهناك فريق ثالث يظن أن أصل المشكلة يعود أساسا إلى تحجر في بنية التفكير الرسمي الذي يحتضن العملية السينمائية بالمغرب ويحيطها بترسانة متخلفة من القواعد والتشريعات . ومن النقاد المغاربة الذين طرحوا هذه المسألة في بعدها الإبداعي نذكر محمد نور الدين أفاية في كتابه ” الخطاب السينمائي بين الكتابة والتأويل ” ، ومصطفى المسناوي في كتابه ” أبحاث في السينما المغربية ” ، وأحمد سجلماسي في كتابه ” المغرب السينمائي ” ، وإبراهيم آيت حو في كتابه ” السينما المغربية الواقع والآفاق ” ، ومحمد البوعيادي في كتابه ” السينما المغربية أسئلة التأويل وبناء المعنى ” .
المفهوم والوظائف :
غالبا ما يتبرم النقاد السينمائيون المغاربة من الوقوف عند المفاهيم ، فهم يمرون عليها كراما ولا يهتمون إلا نادرا باستقصائها وتحديد دلالاتها وبيان أوجه استخدامها في مختلف حقول المعرفة . يستثنى من ذلك فئة قليلة حرصت – وهي تقارب موضوعها بالدرس والتحليل – على رصد ماهية المفاهيم وتحديد العناصر المشكلة لها ، ونذكر من هذه الفئة محمد نورالدين أفاية ومحمد البوعيادي اللذين حاولا إحاطة مفهوم الإبداع بما يناسبه من تحديدات وتعريفات .
يعترف محمد نورالدين أفاية ضمنيا بصعوبة تحديد المفاهيم بوجه عام ، ولكن ذلك لم يقف حائلا بينه وبين أن يقترح مفهوما للإبداع .، فقد اعتبره خلقا جديدا وتخطيا للحاضر من أجل استشراف المستقبل ، وقد استوحى هذا التعريف من بودلير الذي نظر إلى الإبداع باعتباره فعلا يمتلك القدرة على تحويل وتحوير وإعادة توجيه مختلف الصور والعلامات التي تستمدها المخيلة من الفضاء الخارجي . ولأنه لا إبداع بدون تخيل فقد وقف محمد نور الدين أفاية عند مفهوم التخيل واعتبره نمطا من التمثل يقوم في أساسه على صياغة عالم لا يحيل حتما على مرجع خارجي . غير أن التخيل في نظره نوعان ، يكتفي الأول منها بإعادة إنتاج الرموز ، و يحلق الثاني بعيدا في سموات الإبداع ليعيد تشكيل العالم من جديد . وتأسيسا على ذلك فإن الصورة السينمائية المتطابقة مع واقعها – والتي تعتمد النوع الأول من الخيال تجمد عملية التفكير ، ولا تسمح للتخيل بالتفجر ، أما الصورة المختلفة عن واقعها – والتي تعتمد النوع الثاني من الخيال – فهي تنسج عناصرها الرمزية من جديد وتفسح المجال للتخيل والدهشة والسؤال . ثم يضيف أن الصورة المتخيلة تركب ما تستوحيه من العالم الخارجي وما ينزاح إليها من عناصر الوعي والاستيهام والخيال الشعبي ، كما أنها تتغذى بالثقافة التي تتحرك فيها .
ويحضر مفهوم الإبداع عند محمد البوعيادي بشكل محتشم ، فهو منزو في ركن قصي لا تكاد معالمه تظهر إلا بعد جهد ومشقة ، وتبرير ذلك أن هذا الناقد لم يكن مهتما بدرجة أساسية بتعريف العملية الإبداعية بقدر كان منشغلا بإبراز وظائف الصورة السينمائية في المتخيل السينمائي المغربي . ففي مقام حديثه عن هذه الوظائف أشار إلى أن الفيلم هو مساحة إبداعية لتقويض خطابات ويقينيات وتمثلات سابقة ، وأن الإبداع السينمائي سياق ثقافي وفني لإنتاج الوهم والحلم ، وأن للصورة السينمائية قدرة فائقة على تغيير نظام الأشياء وتثبيت أنظمة أخرى ، وأن الإبداع السينمائي يوفر المتعة وينتج اللذة . فمفهوم الإبداع لم يأت صريحا واضحا عند محمد البوعيادي وإنما جاء متلبسا بوظائف الصورة السينمائية والمتمثلة في التعريف بالذات والعالم ، وإنتاج المعرفة ، وتحديث المجتمع ، وترويج الأفكار ، وإرباك الثوابت ، وخلق المتعة ، وإنتاج اللذة ، وتطهير المتلقي ، وإنتاج الحلم والوهم ، وإشاعة المبادئ والقيم ، وتقويض اليقينيات ، وتغيير نظام الأشياء ، وتحقيق الربح المادي .
إن محمد نور الدين أفاية ومحمد البوعيادي لم يحرثا أرضا بكرا ، ذلك أنهما أسندا للإبداع عناصر متداولة تجد أصلها ومنبتها في مجموع الأدبيات التي تناولت بالدرس والتحليل الظاهرة الإبداعية في أبعادها المختلفة : فلسفية ، وأدبية ، واقتصادية ،وسياسية . ففي هذه الأدبيات حديث عن التحويل والتحوير ، والتخيل ، والتركيب ، وصياغة عالم جديد ، وتخطي الحاضر ، واستشراف المستقبل ، وإرباك الثوابت ، وإنتاج المعرفة ، وتقويض اليقينيات ، وتغيير نظام الأشياء . لذلك كان من الأجدى التركيز على ماهية الإبداع في علاقته بالعملية السينمائية ، باعتبارها شكلا فنيا له مقوماته وخصوصياته التي تجعله مستقلا عن الفنون الأخرى ومتفاعلا معها في الآن ذاته ، فلا يتم الاقتصار على مفهوم الإبداع في صلته بألاطروحات والمضامين والأفكار فقط ، وإنما يتم النظر إلى هذا المفهوم في علاقته بالمكونات الجمالية للصورة أيضا .
المظاهر والتجليات :
لا يختلف النقاد السينمائيون المغاربة كثيرا بشأن معاناة المنتج السينمائي المغربي من أزمة إبداع ، لكنهم يتفاوتون في تقدير حجم هذه الأزمة ، فهناك من أقر بغياب الإبداعية بشكل يكاد يكون تاما عن الفيلم المغربي ، وهناك من لاحظ أن السينمائي المغربي مشغول أكثر بنقل ما يجري على الواقع دونما التفات إلى الطريقة التي يتم بها هذا النقل ، وهناك من رأى أن السينما المغربية منشغلة بالهموم الاجتماعية أكثر من انشغالها بالهموم الجمالية ، وهناك من تنبه إلى أن بعضا من التجارب السينمائية المغربية قد خرجت إلى الوجود موشاة بألوان من الفن الجمال لا يمكن أن تخطئها العين .
فأحمد سجلماسي يرى أن المغرب لم يستطع طيلة تاريخه السينمائي أن ينتج تحفا سينمائية ، ذلك أن القليل من السينمائيين المغاربة من حالفه النجاح – وهو يوقع فيلمه السينمائي – في تقديم لمسات إبداعية سواء على مستوى الصوت أو الصورة أو التشخيص أو المونتاج .
ومحمد نورالدين أفاية يؤكد أن الحكي التخيلي في الصورة السينمائية رهان إبداعي وحضاري بالنسبة للسينما المغربية ، لذلك فإن السينمائي المغربي مطالب بخلق أشكال جديدة والتحرر قليلا من الميل المبالغ فيه إلى تقديم أشياء الواقع ، وأساليب الاحتفال والرقص والزواج وكل التعيينات الأنتروبولوجية التي تنتصب أمام العين المغربية بشكل لا يوحي أنها نتيجة تشكيل إبداعي تخيلي يعيد النظر في الأشياء والناس .
ومصطفى المسناوي يعتقد أن المخرج المغربي يشكو من آفة التشتت ذلك أنه لا يركز في فيلمه على فكرة واحدة مضبوطة ينميها ويطور السرد الفيلمي انطلاقا منها وإنما يسعى إلى أن يقول كل شيء في هذا الفيلم ، مادامت فرصة إنجاز فيلم ثان تكاد تكون من قبيل الحلم الذي لا أمل في تحققه . ولأن الأمر كذلك فإن منسوب الإبداعية في منجزه السينمائي يكاد يكون قريبا من درجة الصفر ، بل إنه لا يكاد يلتفت إلى ما ينمي هذا المنسوب ، فيوجه اهتمامه نحو المواضيع ذات الطبيعة الاجتماعية كالهجرة القروية والتراتبية الاجتماعية وقضايا المرأة و التي تنسجم أكثر مع الطرق المداولة في الحكي السينمائي .
أما محمد البوعيادي فينظر إلى واقع الإبداع في المتخيل السينمائي المغربي من زاوية الوظيفة التي تؤديها الصورة السينمائية ، فكلما كانت هذه الوظيفة أكثر قربا من الفن في أبعاده الإنسانية والجمالية كلما كان العمل السينمائي أكثر ارتباطا بالخلق والإبداع والعكس صحيح أيضا . فإذا كانت بعض الأفلام المغربية قد أسهمت في خلق المتعة واللذة ، وحركت الجاهز والثابت ، وأعطت بعدا شاعريا للصورة فحققت بذلك مستوى فنيا رفيعا ، فإن البعض الآخر من هذه الأفلام – وبحكم ولائه المطلق لمنطق الربح – قد افتقد للرؤية الثقافية التي من شأنها أن تكسبه قيمة فنية وبعدا جماليا وحسا إبداعيا .
نستخلص مما سبق أن معظم النقاد السينمائيين المغاربة يؤكدون أن المخرجين السينمائيين المغاربة لا يعيرون كبير اهتمام للهم الإبداعي ، فهم مشغولون في الغالب بالتعبير عن الهموم الاجتماعية ، وحينما يعبرون عن هذه الهموم فإنهم يلجأون عادة إلى الأساليب التقليدية في الحكي السينمائي التي تمنع الخيال من أن يحلق في آفاق الإبداع الرحبة والواسعة ، لذلك فإن الناظر المتأمل في معظم الأفلام المغربية يدرك مدى انخفاض سقفها الإبداعي ، وتواضع قيمتها الفنية ، مما يحول بينها وبين الانغراس في وجدان المشاهد المحلي ، وتحقيق النجاحات المأمولة في المحافل الدولية .
العوائق والإكراهات :
وقد حاول النقاد السينمائيون المغاربة البحث في الأسباب المسؤولة عن تدني درجة الإبداعية في المتخيل السينمائي المغربي فوجدوا أن الأمر قد يعود إلى الموقع الباهث للفاعل السينمائي المغربي في التبادل الثقافي ، كما قد يعود إلى إكراهات الإنتاج والتلقي التي تسد منافذ الخلق أمام هذا الفاعل ، وقد يعود الأمر أيضا إلى ضعف تكوين هذا الفاعل الذي ساقته الهواية إلى ممارسة مهنة الإخراج ومهن سينمائية أخرى ليست من صلب اختصاصه .
فمحمد نور الدين أفاية يرى أن الثقافة في المغرب لم تستقبل بعد إنتاجات السينمائي المغربي ، ولم تعترف له بهويته الإبداعية ، فهي لم تحدد بعد لهذا الفاعل الثقافي موقعا معترفا به في التبادل الرمزي المتعارف عليه . كما أن المخرج السينمائي المغربي يواجه تراكمات لا حصر لها يتعلق البعض منها بالإنتاج ويتعلق البعض الآخر بالتلقي مما يؤثر على أسلوب تخيله وعلى نمط إبداعه ، فهو مضطر لاستثمار كل إمكانياته الإخراجية في عملية رصد أشياء الواقع لا إعادة تركيبه وتشكيله ، مما يجعله مبتعدا عن شرط التخيل الذي لا غنى عنه في كل عمل فني يسعى لأن يحقق صفة الإبداعية .
ويلاحظ مصطفى المسناوي أن ظهور الأفلام السينمائية بالمغرب لا تتحكم فيه رغبات الأفراد ولا إرادتهم بقدر ما تتحكم فيه الدولة . ويلاحظ أيضا أن المخرج السينمائي المغربي يجد نفسه مضطرا للقيام بمهن سينمائية خارج تخصصه الأصلي . فهو كاتب السيناريو والحوار ومدير التصوير والقائم بأمر الإنتاج والممثل الرئيسي في بعض الأحيان ، يمارس كل ذلك دون أن يكون قد تلقى تكوينا أكاديميا متصلا بهذه المهن السينمائية .
ويشير إبراهيم آيت حو إلى أن من أسباب تدني مستوى أغلب الأفلام السينمائية المغربية وعجزها الرهيب عن المنافسة ، العلاقة شبه الاغترابية بينها وبين الجمهور . فهذه الأفلام تتسم بسطحية المواضيع والمضامين المطروحة ومفارقتها الواضحة لواقعها كما تتسم أيضا بتفكك بنائها واهتراء شخصياتها . ويؤكد في مقام آخر أن من أسباب تعميق أزمة الإبداع في السينما المغربية ندرة كتاب السيناريو ، وانعدام معاهد التكوين وقلة الممارسة ، والقطيعة القائمة بين المخرجين من جهة والأدباء من جهة أخرى .
يبدو من خلال ما سبق أن النقاد السينمائيين المغاربة يرجعون أزمة الإبداع في السينما المغربية في الغالب إلى عامل أساس يتمثل في المناخ الذي يشتغل فيه المخرج السينمائي والظروف التي تتعلق بعملية الإنتاج والتمويل ، ولم يلتفتوا كثيرا إلى العوامل ذات المنشأ الذاتي . فإذا كانت إكراهات المحيط تحد كثيرا من فرص الإبداع وتقلل من إمكانية الخلق وتعيق تفجر المخيلة ، فإن ذلك لا ينبغي أن يثني المخرج المغربي عن اتخاذ المبادرة ، وممارسة الاجتهاد ، والانفتاح على تجارب الآخرين ، واقتحام المناطق الوعرة ، فالإبداع لم يكن في يوم من الأيام نزهة في حدائق الشعر والتشكيل ولا سياحة في عوالم المسرح والموسيقى ، إنه جهد ومشقة ومعاناة ومكابدة. إنه رحلة محفوفة بالمخاطر في أعماق النفس ، ونفاذ وعر وشائك إلى أقبية الواقع .
الشروط والمواصفات :
لم يكتف النقاد السينمائيون المغاربة بتعريف الإبداع ، وتحديد وظائفه ، و بيان مظاهره ورصد عوائقه ، بل استقصوا أيضا شروطه ومواصفاته ، فعددوا المقومات التي تسمح بالحديث عنه خصوصا عند ركنين أساسيين من أركان العملية السينمائية وهما المخرج والسيناريست .
فمحمد نو الدين أفاية يوضح أن المخرج السينمائي المغربي لا يجب أن يبتعد عن قضايا مجتمعه إرضاء للمتفرج أو المؤسسة الثقافية ، وإنما ينبغي عليه أن يقتحم هذه القضايا ، وأن يغير زاوية النظر إليها ، لأن من شأن ذلك أن يساهم في بلورة العمل الإبداعي . كما يؤكد في مكان آخر أن على السيناريست أن ينصت لما يحصل في الواقع من تحولات وأحداث وأن يهتم بما يسيطر على المتفرج من هموم وانشغالات .
وأحمد سجلماسي يرى أن عملية الخلق والإبداع تستدعي من المخرج السينمائي أن يمتلك رؤية واضحة للدور الذي يمكن أن تضطلع به السينما مجتمعيا ، وأن يكون له استعداد فطري لممارسة العمل السينمائي ، وأن يكون قادرا على التحكم في أدوات السرد الفيلمي ، وأن يبحث عن أفكار أصيلة قابلة للأفلمة بشكل فني ، وأن يلم بتفاصيل الواقع الذي يعيش فيه ، وأن يقف على أرضية ثقافية صلبة ، وأن يؤمن بجدوى العمل الجماعي ، وأن يحترم مبدأ الاختصاص .
ويعتقد إبراهيم آيت حو أن مسألة الإبداع تتعلق في العمق بذكاء السيناريست ، وسعة أفقه ، وكذا وعيه التام ، وإدراكه العميق لمجمل ما يعتمل في مجتمعه ، وهي مواصفات ستمكنه من وضع اليد على مناطق الإبداع والحساسية في كل المصادر التي يتعامل معها ، وذلك تساوقا مع معرفته لخصوصيات ورغبات الجمهور الذي يتوجه إليه .
ما يمكن استنتاجه مما سبق أن أغلب النقاد السينمائيين المغاربة يعتقدون أن تحقق الإبداع في المنتج السينمائي المغربي مهمة يتحمل وزرها المخرج السينمائي بالدرجة الأولى باعتباره المسؤول الأول والأخير عن الفيلم السينمائي . وإذا كان هذا الاعتقاد قريبا جدا من الصحة في حالة سينما المؤلف ، فإنه يحتاج إلى إعادة نظر حينما يتم الحديث عن العمل السينمائي بوجه عام بغض النظر عن مدارسه واتجاهاته وتيارات الفنية . فهذا العمل هو من طبيعة مركبة تتداخل فيه جملة من العناصر التي تنتمي إلى حقول معرفية متباينة ، وتساهم فيه أطراف مختلفة بداية من المنتج إلى كاتب القصة ، مرورا بالمخرج والمصور وصولا إلى المونتير والموزع . فهذه الأطراف جميعها تساهم بشكل بنيوي في تشييد صرح العملية الإبداعية ، فتدخلاتها تبدو واضحة تماما أثناء عرض الشريط ، والمشاهد الخبير يدرك بدقة ذلك ، ويلاحظ مدى إسهام هذه التدخلات في بناء إبداعية الفيلم ومنحه ما يحتاج إليه من ألق فني وحس جمالي . لذلك فإن أي حديث عن الإبداع في العملية السينمائية لن يستطيع أن يكتسب حجيته إلا إذا استحضر جميع الأطراف المساهمة في هذه العملية وبين دورها البنيوي في تشييد إبداعية المنتج السينمائي .
بوشعيب الخياطي