تقدم مونودراما “تحت السما” للكاتبة فاديا دلا والمخرج ماهر صليبي والفنانة يارا صبري نموذجاً لتعاطي الفن مع أي حدث سياسي أو اجتماعي ساخن، فالعرض ينهل من الحدث السوري الساخن، بعضاً من الوجع الإنساني الذي يتقاسمه السوريون، ويقارب في حكايته مرارة الفقد، الذي لا يحتاج للوقت ولا أن تأخذ الأحداث أبعادها النهائية على الأرض لنقاربه فنياً.
عبر مونولوج طويل تسرد الكاتبة الحكاية على لسان أم سورية (يارا صبري) فقدت أولادها في الحرب، وخسرت معها كل معنى للحياة. و عادت اليوم لتروي الذكريات التي اختلطت بالدماء، عبر مستويين من السرد ؛ الأول يتعلق بالفعل الدرامي المباشر على الخشبة، والثاني يعتمد تقنية الفلاش باك في استعادة الماضي.
الفقد والوجع سيبدوان العامود الفقري الذي سيقوم عليهما البناء الدرامي للحكاية بوصفهما ثنائية تُعاش لتُروى في ذاكرة سوريّة موجعة، إلا أن كثيراً من الوجع سيأتي أيضاً من الثنائيات المتناقضة التي تبدو الأم أسيرة هواجسها تحت السماء، ثنائيات الكره والحب، الواقع والخيال، الحقد والتسامح.
تكتب فاديا دلا نص “تحت السما” بعد نحو خمس سنوات من انطلاقة الحراك الشعبي في بلادها سورية، أثقلها الموت والدمار والتهجير هناك، ولكنها تبقى مخلصة للبناء الدرامي لحكايتها، فتبقي التعبير عما هو سياسي فيها، في إطار ما هو فني.
وتقول الكاتبة فاديا دلا أن “التعبير عما هو سياسي في إطار فني خالص ليس عجزاً عن إبداء رأي سياسي، أو إقصاء لموقف إنساني تجاه الأحداث التي تشهدها بلاده وإنما هي حالة ترفع فني، ممن يعرف جيداً أن ما من فن بلا موقف مسؤول، وبقدر ما يخلص النص المسرحية لفنيته، بقدر ما يخلص للقضية التي يتبناها“.
وما بدأه النص، يعد المخرج ماهر صليبي أن تتكامل أركانه الفنية مع رؤية إخراجية ستأتي مخلصة لروح النص ذاته وللموقف فيه دون أن ترهقه بإشارات أو إيحاءات سياسية مباشرة،، فالعمل كما يراه المخرج صليبي بقوله: “رسالة إنسانية من فن اللامباشر الذي أفضله“.
يحضر الفن في مسرح ماهر_صليبي، بلا تنظير وتجريب أعمى، هو يقول كلمة العرض كما تقتضي.. دون أن يعني ذلك حياديته تجاهها، فهو لا يستسلم للأشياء بواقعيتها الملموسة، وإنما يعرف كيف يعبر عنها بما يحفظ للفن مقولته وحضوره، ويترك في الوقت ذاته للواقع تعبيره. وذلك هو واحد من التحديات التي يؤكد المخرج صليبي أنه تجاوزها بتحقيق التوازن ما بين هو فني وما هو واقعي، ويقول صليبي: “نقدم في “تحت السما” فناً يقارب قضية وطنية كبيرة، ونسعى لتحقيق فرجة مسرحية ممتعة، لأكثر القضايا قسوة وألماً، وعلى الجمهور ألا يتابع العرض من المنظور ذاته الذي يتابع عبره نشرة أخبار، وإلا فقد متعة الفرجة..الثابت أن العرض لا يقف حيادياً تجاه الوجع السوري، وهو يروي بعضاً من هذا الوجع لا كله“.
تعيد مونودراما “تحت السما” الفنانة يارا صبري إلى خشبة المسرح بعد غياب امتد نحو تسع سنوات منذ قدمت في العام 2007 مع المخرج ماهر صليبي دور البطولة النسائية في مسرحيته (فوتوكوبي)، وهي تعود اليوم إلى خشبة المسرح، لتجسد دور الأم المثكولة بالفقد، بوصفها تعبيراً فنياً عما آل إليه وضع السوريون، تقول يارا: ” الايمان بشرط المسرح الملتزم في هذه الفترة هو ايمان بمنطق معايشة الواقع وتقديم رؤية مقاربة له ، ولعل الحدث الاطار ينطلق من الحدث العام وفق رؤيا فنية اعتقد انها جاذبة وقد عملنا خلال الفترة الماضيةلنعمق مفهوم البروفة اليومية في العلاقة مع العرض ، وادعي الصيغة التكاملية لهذا العرض الذي يولد في ظروف خاصة جدا ”
وتلفت الفنانة صبري إلى أن المونودراما هو الشكل الأمثل لإيصال أفكار العرض ورسالته الإنسانية والسياسية، ففيها يأخذ الممثل دور الحكواتي، والمستمع هو حكماً الجمهور، الذي يعد جزء من العرض لا مراقب له، كون الجدار الرابع مكسوراً بطبيعة النص المونودرامي، وكل ذلك يساهم في إيصال فكرة العرض وصرخته في وجه القتل والفقد والدمار“.
“تحت_السما” محطة جديدة ستجمع يارا صبري مع المخرج ماهر صليبي ومعهما الكاتبة فاديا دلا في تجربة هي الأولى لها من حيث الإنتاج الإبداعي المسرحي، ولكنها ذروة مرحلة من العمل الإعلامي والثقافي العام، والحياتي المعاش أيضاً..ثلاثي من شأن لقائهم أن يمنحنا التفاؤل بأن تزهر الخشبة عرضاً بجمال فني بليغ