قصبة المهدية قرب مدينة القنيطرة على مصب نهر سبو واحدة من أهم المعالم التاريخية التي بنيت في القرن السادس قبل الميلاد وحملت على مر التاريخ أكثر من اسم وجاورت أكثر من قوم قبل أن ترتبط في مرحلة لاحقة باسم السلطان المولى اسماعيل الذي قرر بناء قصره العامر وسط أحراشها ثم توسيع عمرانها حد أن أضحت قبلة عالمية في زمانها .
وبرغم الصيت العالمي الذي حظيت وتحظى به هذه المعلمة الثمينة فإنها تعيش أوضاعا مزرية عنوانها التدهور والإهمال .
الوصول إلى قصبة المهدية أو “قصر المولى إسماعيل” كما يسميه جميع سكان المناطق المجاورة له يحتاج إلى ساعة ونصف الساعة انطلاقا من مدينة الدار البيضاء مرورا بكل من مدينتي المحمدية والرباط ثم مدينة القنيطرة بمحاذاة مدينة المهدية الهادئة على المحيط الأطلسي وحيث تبدو القصبة الشامخة بأبراجها الضخمة تطل على غابة المعمورة الوافرة ينساب بين جدرانها نهر سبو الذي يربط مناطق الغرب الشهيرة بحقولها الوفيرة وجودة منتجاتها الفلاحية من خضروات وبواكر وحبوب وعنب …كان وصولنا إلى القصبة أو قصر المولى إسماعيل في الزوال وبرغم ذلك وجدنا في الداخل أناس انتشروا في فضاءات المكان لتأمل معالم مآثر بنايات شكلت في عصرها المنازل والمساجد والثكنات والمدارس والفنادق والإسطبلات والاهرية (مخازن الحبوب) محاطة بهندسة بديعة بـأسوار وأبراج ساحرة يقف عندها الزائر طويلا حيث شكلت الأبراج الثلاثة واجهة دفاعية موسومة بالخنادق والأبواب الحجرية المنحوتة التي اعتبرت تحفة في عصرها كما يقول مرافقنا الباحث محمد بوراس شارحا أن القصر الوحيد وسط القصبة كان منزلا للحاكم وكان قصرا فسيحا يتم الولوج إليه عبر باب حجري منحوت ومزوق بدقة بالغة يؤدي مباشرة إلى المسكن الفسيح المكون من أربع قاعات مزينة بالزليج الملون الذي لا تزال معالمه بادية حتى الآن ..دليلنا في المكان الباحث محمد بوراس أوضح أن المولى إسماعيل اختار السكن في قصر القصبة محاطا بقادته حيث أحاطت بيوت قادة العسكر بقصر السلطان في تناغم معماري لافت حير الدارس والمهتم والزائر أيضا .
لمحمة تاريخية
كل المصادر التاريخية تتفق على أن القصبة شيدت في القرن السادس الهجري وتزامن ذلك مع تأسيس السلطان الموحدي عبد المومن ورشات بحرية لاستخدام الخشب الممتاز المتواجد في الغابات المجاورة ولتصير فيما بعد مركزا للمبادلات الاقتصادية مع أوروبا قبل أن يحتلها البرتغاليون في القرن العاشر لمدة قصيرة لم تتجاوز الشهر ونصف الشهر حيث استولى عليها فيما بعد القراصنة وحولوها لمركز هام لأنشطتهم وهو الوضع الذي دام طويلا قبل أن تحتل عنوة من طرف الاسبان الذين أطلقوا عليها اسم ” قلعة القديس ميشيل لما وراء البحار” وهي التسمية التي لم تدم طويلا حين استعادها المولى إسماعيل في العام 1091 هجري /1681 ميلادي ليتخذ لها اسم المهدية لقبا ولتتحول لقلعة حصينة ومنيعة استعصت فيما بعد عن كل الغزاة حتى العام 1911 حين نزل الاستعمار الفرنسي بشاطئ المهدية استعدادا لغزو العاصمة فاس حيث تم تحويل القصبة إلى قاعدة عسكرية دام العمل بها طوال تواجد الاستعمار الفرنسي بالمنطقة قبل أن تصبح منطقة عسكرية إستراتيجية بفضل الحلفاء في العام 1942 حين قررت القوات الأمريكية النزول بالقصبة واعتبارها منطلق بناء قوات الحلفاء الذين قرروا آنذاك بناء قواتهم في إطار ما أطلق عليه بعملية “طورش” انطلاقا من المغرب ، وبسبب هذه الحظوة أدت القصبة الثمن غال حيث تعرضت لهجمات عنيفة من طرف القوات الفرنسية الموالية للألمان ” حكومة فيشي ” اثناء قصفها القوات الأمريكية المرابطة هناك .
نسيان وإهمال
لم تعد هذه القلعة التي كانت حصنا منيعا منيعة ضد الإهمال وقسوة ذوي القربى من مسئولين وأحيانا مواطنين أهملوا المكان وربما اعتدوا عن جهل على ملامح المكان وعاثوا فيه فسادا حد أن تحولت القلعة التي كانت مفخرة إلى مزبلة تركن النفايات جل مرافقها بما في ذلك محيط القصر الذي تعرض للتشويه ورفعت عنه الحماية حد أن انتهكت حرمته وهيبته التي تمتع بها لقرون عديدة .
الحاج علي 66 سنة من ساكنة المنطقة يشتكي من المشردين الذين يحتلون المكان ويضايقون الزوار ، ويلقي باللائمة على وزارة السياحة التي أهملت المكان الذي يفترض أن يكون موقعا سياحيا يستقطب السياح من كل حدب وصوب ..الحاج علي الذي دأب على زيارة القصبة صباح كل يوم أشار إلى موقع خراب موضحا أن المكان كان يحتضن مدافع اختفت في ظروف غامضة دون حسيب ولا رقيب ..الشكوى نفسها رددها المدني المعطي عضو جمعية أصدقاء تراث الغرب حين تحدث عن الاستهتار الكبير الذي يتعرض له التراث الوطني داعيا إلى سرعة إنقاذ ما يمكن إنقاذه لاسيما أن مجموعة من البنايات لا زالت قائمة داخل القصبة وتحتاج فقط لترميم سريع لصونها والحفاظ عليها ومن بين ذلك تجميع أكبر قدر ممكن من المعطيات الاركيولوجية حول القصبة وإحداث مؤسسة يعهد لها تدبير القصبة والعمل على انجاز سياج واق حول المنطقة وإغلاق أبوابها الثانوية ووضع حد للتخريب الذي لحق بالموقع وإصلاح الثقوب التي يمكن أن تلحق خسائر أكبر بالبناية إذا ما أهملت ..
قلعة الجهاد التي تحولت لوكر
قادتنا الأقدار ونحن نطوف جنبات القلعة إلى مكان منعزل في أعلى القلعة يطل على نهر سبو ، تملي المكان من الأعلى لم يكن ممكنا ونحن نصطدم برؤية أشخاص بدت عليهم علامات الارتباك وهم يفاجئون بوصولنا إلى هذا المكان القصي ، لم يكن الأمر يحتاج إلى الكثير من البديهة لنفهم أننا دخلنا منطقة محظورة وأن الأمر يتعلق بوكر لعصابة تستعمل القصبة كمكان امن لتجمعاتها ومخططاتها الإجرامية ..الصدمة كانت قوية والسرعة التي قفلنا بها راجعين كانت الدليل الأكبر على أننا نبغي النجاة أكثر من أي شي اخر وأن هذه القصبة مثلما تخفي الكثير من المآثر والأحداث التاريخية تخفي أيضا الكثير من المخاطر التي قد تكلفك حياتك .
أهل الاختصاص
إذا كانت هموم ساكنة المنطقة تحركها الغيرة على معلمة تاريخية كانت دوما مفخرة وطنية فان أهل الاختصاص تحركهم أمور تتجاوز العواطف إلى ما يعني الذاكرة الوطنية كما يشرح ذلك الباحث عبد القادر بوراس معتبرا أن ترميم القصبة واجب وطني لإعادة الأمجاد التاريخية للبلاد وواجب اقتصادي واجتماعي لتنمية الجهة منتقدا الإهمال الذي تتعرض له القصبة مقابل الاهتمام بمعالم مدن أخرى كالرباط ومراكش وغيرها في مقابل إهمال المواقع الأثرية القديمة التي تزخر بها جهة الغرب
الباحث بوراس عدد الكثير من خصائص جهة الغرب في الشق المتعلق بالمآثر التاريخية داعيا إلى ما اسماه إعادة الاعتبار إلى المنطقة من خلال دعم الباحثون في المجال وصون المواقع الأثرية القديمة وضرورة إعداد برنامج للحفريات بموقع القصبة ثم انجاز مسح رقمي له قبل إجراء أي تغيير عليه، والسهر على تطبيق النصوص المتعلقة بتصنيف المآثر والمواقع التاريخية بالنظر إلى التغييرات العمرانية التي تعرفها المنطقة المهدية، والقيام بربط موقع القصبة بشبكات الماء الصالح للشرب والتطهير السائل والكهرباء وتهيئة الموقع بمدار لزيارة معالمه الأثرية بعد ترميم البعض منها، إلى جانب وضع التشوير اللازم لذلك، والعمل على إحداث متحف خاص بالموقع قصد عرض التحف الأثرية وتعميق المعرفة بتاريخه وبرمجة أنشطة يدوية من قبيل ورشات صناعة الخزف والرسم وتنظيم أنشطة ثقافية بعين المكان، وتحديد وبلورة مشاريع تنموية إلى جانب الساكنة المحلية، كخلق شركات صغرى مختصة في السياحة والصناعة التقليدية.