محمد بنعزيز
احتضنت مدينة طنجة الدورة السادسة عشرة للمهرجان الوطني للفيلم بين عشرين وثمانية وعشرين فبراير 2015. وهي الدورة الأولى التي يشرف عليها المدير الجديد للمركز السينمائي المغربي. وشملت المسابقة الرسمية ثلاثين فيلما نصفها قصير. ومن ضمن الأفلام الطويلة “نصف السماء” لعبد القادر لقطع.(102د). من بطولة سونيا عكاشة وأنس الباز. الكاستينغ ممتاز وقد قدم شخصيات تعيش تناوب لحظات اليأس والأمل مع غياب المظلومية في الفيلم. ليس فيه إحساس بالبؤس. تتصرف الشخصيات بكرامة حتى أقصى لحظات الألم. هذا نادر في الأفلام المغربية.
الفيلم مزيج من التخييل والتوثيق. مقتبس رواية سيرذاتية. الرواية أم السينما. وهي توفر للمخرجين مادة سمينة من لحم وشحم لاقتطاع السيناريو. اقتبس المخرج سيرة جوسلين اللعبي. وقد كتبت سيرتها وسيرة المناضل. مثقف سنوات الرصاص الذي يفكر في بالثورة أكثر مما يفكر في رفاهية جسده. كان عبد اللطيف اللعبي مثقفا عضويا بالمفهوم الغرامشي ومازال. أصدر مجلة ثقافية رادكالية بأفق سياسي. اعتقل مع رفاقه وعذبوا لاجتثاث المعارضة الثقافية. وهكذا قضى الشبان حياتهم خلف القضبان يرون نصف السماء. وفي لحظة استثنائية تمثلت في صداقة بين الشاعر والشرطي الذي يحرسه (عبد الخالق عبدو بلفقيه) خرجا لشرب وكأس ومشاهدة السماء كاملة.
لقد بنى النظام السياسي المغربي حينها سمعته المخيفة بالمنع والقمع. كان يعتبر الكتب “موادا جرمية” يحجزها البوليس ويقدمها كأدلة إدانة للمتهمين أمام القضاء. ويحكى الرفاق أن قاضيا قرأ اسم كتاب هكذا “إن جلس” و”هو شيء منه”. لم يعرف القاضي اسم صديق ماركس ولا اسم الزعيم الفيتنامي.
ارتفع إيقاع الفيلم بعد نصف ساعة من تقديم المعطيات للمتفرج. كانت المرافعات ساخرة ومكنت المناضلين من تحويل المحاكمة إلى إدانة للنظام. كان وجه القاضي مرتبكا وهو يحكم بالباطل. دعمت المنظمات الدولية المعتقلين بضغطها الشديد فخرج اللعبي من السجن قبل غيره بفضل سمعته الدولية كشاعر… سمعة لم يجسدها بطل الفيلم الذي بدا لي باهتا. لسببين أولا لغياب الشبه بين الممثل والشاعر وثانيا لأن أنس الباز أدى الدور بمسكنة. خمنت أن الممثل ربما وصل للدور في آخر لحظة. تولد هذا الانطباع من كون كتابات اللعبي تحمل شراسة نقلتها إلى شخصيته. أنس الباز أكد العكس وأكد أنه طبق تعليمات المخرج وأنه رافق الشاعر لعدة أشهر لفهمه. إذن فالقصائد شرسة أما الشاعر فهو حمَل وديع. وهو ما شخصه الممثل الموهوب. (كان ظهوره قويا في كازانيغرا. وكان ظهور سونيا عكاشة ملفتا في فيلم “زيرو” لنور الدين لخماري).
يتتبع المخرج عشر سنوات من تاريخ المغرب. لكن يوجد مشكل على صعيد رصد مرور الزمن في الفيلم. نرى على الشاشة “”بعد يومين، بعد أسبوع، بعد سنة” وهذا لأكثر من عشر مرات. يسجل المخرج مرور الزمن بالكتابة لا بالصورة. حتى أنه لا يظهر مرور الزمن على ملامح الشخصيات أيضا كأن الزمن ثابت ميت. ليس هذا هو العائق الوحيد على صعيد اللغة السينمائية. فخلال نصف ساعة الأول تسببت الإضاءة القوية في ضبابية الصورة في اللقطات الداخلية. وقد غيّب التصوير الداخلي الكثيف زخم المرحلة. بقي الواقع المغربي خارج الكادر. كما أن غياب صور حياة السجن قد جعل الزوجة هي البطلة لا المناضل.
يتسبب التصوير في أمكنة ضيقة في صعوبة التحكم في الإضاءة التي تغلب الكاميرا. يضعف التصوير الداخلي اللغة السينمائية. ولتعويض ذلك شغّل المخرجُ أذنَ المتفرج بدل عينيه. زاد من الحوار وقراءة الرسائل فسمّم الكلام اللغة السينمائية.
في المناقشات حول الفيلم غلب المحتوى على اللغة السينمائية. للفيلم بعد سياسي وهذا ما جعل النقاش ساخنا. نفى المخرج البحث عن المطابقة التاريخية وأكد “أحكي عن الشخص. الشخص هو الأساسي”. لكن الشخص هنا شاعر ينتمي لفصيل سياسي مستفز. وبما أن اللعبي ساهم في كتابة السيناريو فهو ينتقد السلطة ولا يوجه أي نقد لتجربة اليسار الراديكالي. كان هذا جدلا حول الأمانة التاريخية. وفي هذا الباب اقتحمت شقيقة الشهيدة سعيدة المنبهي المنصة لتنفي زعم الفيلم موت المناضلة بسبب المرض. وطالبت بحذف هذه المعلومة من الفيلم وأكدت أن سعيدة استشهدت بسبب إضراب عن الطعام لمدة أربعة وثلاثين يوما.
لكن من قال إن السينما ليست ملزمة بالأمانة التاريخية؟
هكذا بعد عشر سنوات من موجة أفلام سنوات الرصاص، يعود المخرج بفيلم عن المرحلة المشعة. هكذا رفع المستوى أمام أفلام كثيرة في المهرجان تزعم أنها كوميدية.